خربشات
(1)
{ في مقالته الساحرة بأخيرة الشرق الأوسط السعودية التي عادت للخرطوم بأوراقها الخضراء محمية بالسلطة بعد أن كانت السلطة تصفها بخضراء الدِمن.. لأن الزمن تغيَّر والرجال لم يتغيَّروا بعد .. سأل “سمير عطا الله” الكاتب اللبناني مفجوع الضمير والإحساس عن انصراف زمان الشعراء وغروب نجوميتهم في واقع اليوم بعد أن كان لكل بلد شاعر في الهند “طاغور” ومصر “أحمد شوقي” والعراقي “بدر شاكر السياب” و”الجواهري”، وفي سوريا “نزار قباني” وطبعاً في السودان كان د. “محمد الواثق” الأستاذ بجامعة الخرطوم والشاعر البدوي الرحال “الناصر قريب الله”، هؤلاء من عندي، فالكُتَّاب العرب لا يعترفون للسودان بفضل ولم يذكر هذا البلد أديباً إلا في زمان “الطيب صالح” الذي وجد الاعتراف من الغرب قبل العرب ولو لم يعترف الغرب بـ”الطيب صالح” لما أفسحت له مجلة (المجلة) أخيرتها ليكتب نحو “أفق بعيد”..نعم غربت شموس الشعراء وغادروا من متردم، وربما جاء زمان الأقدام وسحرة الميدان .. فأصبح لمصر بدلاً من “أحمد شوقي” لاعب اسمه “محمد صلاح” وأصبح لتونس بدلاً عن “خير الدين التونسي” و”أبو القاسم الشابي” لاعب في فريق إنجليزي سقط من صهوة جواد الدوري الممتاز اسمه “واهب الخزري” .. وحتى الهند بلاد الشاعر “طاغور” غشاها اندثار النجوم ومات “غاندي” وما عاد أحد يذكر من هو حاكم الهند اليوم.. وجزائر “مالك بن نبي” أصبحت اليوم جزائر “عبد العزيز بوتفليقة” و”رياض محرز” وغربت شمس الأدباء في الوطن العربي الشامي مثلما غربت حتى في الأرض الفلسطينية التي لم تنجب بعد “محمود درويش” و”فدوى طوقان” و”ناجي العلي” نجماً إلا بعض من إشراقات “إسماعيل هنية” وقليل من بريق شباب الحجارة التي توقفت عن الإرسال. كان في وطننا السوداني يغرِّد “الفيتوري” الذي هو مزيج من دارفور ومصر وليبيا .. تمتد جذوره إلى قبائل ليبية وولد في الجنينة وتربى في مصر. أما الدنيا أنشد في بواكير عطائه .
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها ما تعطيه
على استحياء
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
بعد رحيل “الفيتوري” وموت “صلاح أحمد إبراهيم” انحسرت النجوم وغطاها سحاب لا يمطر وغيوماً لا تتبدد، وحتى في السياسة والصحافة والإعلام انتهت نجومية الأفراد وأطل زمان نعاه “مصطفى سند” في بردة الجمال قبل أن يغادرنا في مجد عطائه.
اللغة الحزينة آخر الأنفاس
نائمة وناقوس الشجن
يسقي شحوبك نضرة الموتى
وأقباس المراقد واحتراقات الزمن
(2)
من رماد الهزيمة تنتصر المجتمعات والجينات الأصيلة لن تهزمها الرياح العابرة.. ومن دموع الأسى تطرز الحسان شلالات الفرح وتغني الصبايا في قرية الفرشاية التي رزئت بعاهتين التمرُّد منذ نشوبه في جسد كردفان الجنوبية.. ومرض الإسهالات المائية في الصيف الماضي، حينما حصد الإهمال وسوء التدبير وغياب الضمير أرواح أكثر من عشرين من الصبايا والرجال والنساء.. لكن الفرشاية تفرش بساط الفرح اليوم وتغني ويعود إليها الطبل المشروخ بعد سنوات القحط والجفاف .. لتخصب رحمها الأفراح والفرشاية هي المنطقة التي يصطرع حول تبعيتها مدينتين الدلنج من الجنوب والدبيبات من الشمال.. فالمدينة مختلف حول هويتها الإدارية، هل هي جزء من محلية القوز ؟ أم إدارية أصيلة من إداريات محلية الدلنج؟ وتفتقت عبقرية معلمي الصبية إلى حل وسط أن تتبع الفرشاية سياسياً إلى القوز ومدينة الدبيبات وإدارياً إلى الدلنج. وتلك قسمة ضيزى وشهادة إثبات عن بؤس قادتنا وسوء تدبيرهم وعجزهم عن اتخاذ القرار الصحيح الذي قد يكون تبعية الفرشاية إلى الدلنج أو الدبيبات.. تلك جدلية لا شأن لنا بها.. لكن الأسبوع الماضي نفضت الفرشاية عن ذوائبتيها النعاس وليست ثياب الفرح بعد سنوات الحزن الطويلة.. بعد أن كف التمرُّد عن مهاجمتها بسبب ذاتي وموضوعي.. فالمقاومة التي وجدها من جميع أهل المنطقة كسرت بندقية “الحلو”.. وعودة ابن المنطقة “أبو كيعان” من التمرُّد للمشاركة في الحوار قد رفع عن المنطقة عبء ثقيل وعاد إليها الاستقرار والهدوء وتغنت هذا الأسبوع بأهازيج الدرملي والمردوع والنقارة .. رقصت الفرشاية فرحاً .. بالمصارعة التي لها شعبية أكبر من كرة القدم في بلاد النوبة الذين تأثر بهم الحوازمة والفلاتة والهوسا وكنانة وبرقد وبرنو.. والمسيرية.. كما تأثر النوبة بالبقارة. وكما قال د. “حامد البشير” في كتابه عن جبال النوبة، هناك النوبة (تبقَّرو) أي أصبحوا بقارة وهناك بقارة (تنوَّبو) أي أصبحوا نوبة .. وبين البقارة والنوبة أخلاط قبائل السودان تعلَّموا لعبة المصارعة التي تنم عن التسامح والإخاء والمحبة.. في الفرشاية عادت لعبة الصراع بعد (10) سنوات.. واتسعت رقعة الأمن وجاء المسيرية بفريق من المصارعين والحوازمة والنوبة والفلاتة والهوسا وكنانة بفريق من المصارعين .. تنافسوا على الفوز المعنوي بلا جائزة مالية أو كأساً.. وخرجوا متعانقين فائزين بنعمة الأمن وعودة الصفاء.. وغروب شمس النزاع وبزوغ فجر السلام ..شكراً للفريابة التي عادت إليها الحياة.
(3)
{ يشعر المرء أحياناً بالفشل في تحقيق مشروعاته الصغيرة والكبيرة وتخيِّم عليه جيوش الحزن ويرخي الزمن سدول الإحساس العميق بالضياع.. وسوء الاختيارات وبؤس الخيارات التي اختارها لنفسه.. كثير من الناس يصيبهم الاكتئاب جراء عواطفهم التي جرفت منطق الواقع.. وكما تقول “داليا الياس” في رسم بيوت الحزن ومقابلها من بيوت الفرح تسكن بيتك الأحزان والكدر والهم والغم.. وقد تسكن في عشة صغيرة وبيت من الطين أو القصب الجاف، ولكن تشعر بالسعادة وحلاوة الدنيا.. ونعيمها..وتضحك رغم الفقر والمسغبة .. وقد تبكي ويدمي قلبك رغم سترة الحال وتدفق المال.. السعادة في الحياة قسمة ونصيب من رب العالمين والشقاء امتحان للمرء ليصبر على الابتلاء.. ويصبر على المكاره.. والصبر على أسباب الشقاء في الدنيا واحتمال الآخر القريب والبعيد فليس في الدنيا ما يستحق أن نختلف عليه ولا أن نكره بعضنا بعضاً، لأن عنوان الدنيا العابر كل من عليها فان.. وفي يوم (الجمعة)، تتمدد بطاقات التسامح والتصافي والتعافي مع من يكرهك ويبغضك.. ويوم (الجمعة)، للمراجعة الأسبوعية لدفتر الخسائر والأرباح، لأن (الجمعة) قد لا تعود وأنت على ظهر البسيطة وكل (جمعة)، والجميع بخير.