رئيس جمهورية الحب "إسحق الحلنقي" في حديث الأغاني والذكريات والدموع (1-2)
في زمن أغنية (كيلو الحنان بكم).. أفكر في الهجرة نهائياً حتى (لا ينفجر فيني شريان)
الآن أي شخص كتب حرفين يقال هذا شاعر.. وأشعر بغربة مركبة
لو لم أهاجر لكتبت ألف أغنية.. “وردي” قدمني للناس بـ(أعز الناس)
ما يميز الشاعر المرهف “إسحق الحلنقي” رئيس جمهورية الحب كما يحلو لمعجبيه تسميته.. ما يميزه هذه اللغة الشاعرية والمفردات المنتقاة بحس رومانسي عالٍ التي لا تفارقه أينما حل.. “الحلنقي” أحاديثه شعر، وأشعاره أحاديث إبداعية جميلة.. في هذا الحوار قضينا معه ساعة من عمر الزمان تمنينا ألا تنتهي، حاولنا من خلالها ألا نترك صغيرة ولا كبيرة في مسيرته الشعرية دون أن نطرق عليها، داعبنا دواخل هذا الشاعر المرهف وتلمسنا أوتاراً حساسة في روحه الشاعرية، ابتسم في كثير من المحطات، وأدمعت عيناه وجاشت دواخله في أخرى.. تحدث بأسف عن حال الأغنية السودانية، وتمنى لو أن الزمن يعود إلى الوراء، إلى زمان كان فيه عمالقة الساحة الفنية ينثرون درر الغناء والشعر أمثال “وردي” و”عثمان حسين”، توغلنا إلى سر التباعد بينه وبين الفنان “ود الأمين”، وحدثنا عن ارتباطه الوجداني بالفنان “محمد وردي”، وارتبك بشكل ملحوظ وهو يحكي وقائع اللحظات الأخيرة لوفاة “وردي”.
حوار – محمد إبراهيم الحاج
{ أنت عشت في حقب زمنية مختلفة وعاشرت مبدعين في السودان وهم معنيون بتوصيل العاطفة.. برأيك.. في أي زمن كانت العاطفة قوية مسيطرة في علاقة المبدعين فيما بينهم؟
_ في السبعينيات، من ما عرفت مجال الغُنا وحلاوة الكلمة البيضاء والكلمة الحنينة والفراشة عرفتها صاح بتتميز بكل شيء مشرق فيها في الفترة من 68 وحتى 77 ومنها وأنا هاجرت، هذه الفترة الغنا اللافي في السودان دا كلو أنا كتبته في الفترة من 68 -77 حاجة بتاعت حوالي (150-200) أنا كتبتها في هذه الفترة، أنا ما عارف لو قعدت في السودان واستمريت كان تسمع ألف أغنية.
{ في هذه الفترة ما هي الأغاني التي قدمتها؟
_ أنتجت فيها كل الأغاني المعروفة مثل (بتتعلم من الأيام، عصافير الخريف، مشي أمرك يا قدر والأبيض ضميرك) الغُنا المعروف. كما قال لي أحد الإخوان أي أغنية جميلة أجدها لدى فنان بتكون حقتك إنت قاعد تعمل للقصة دي شنو.. قلت ليهو: بسقيها مياه توتيل.
{ هذه الفترة كانت تحمل إنتاجك الأجمل؟
_ لا، ليس الأجمل، ولكن الأكثر تأثيراً.. حتى الأكثر تأثيراً لديّ فيه رأي.. يعني في أغاني أنا كتبتها مثل (اعذريني) أنا كنت أتمنى لو غناها “سيف الجامعة” وكنت أتمنى لو غناها “فرفور” وفعلاً غناها أكثر من فنان في البلد دي، لو نظرت إليها من ناحية نص ستجدها ليست أقل من أي أغنية كتبتها في الزمن الجميل من ناحية حبكة وسلاسة وأبعاد جمالية، وأنا عندما أسمع مقطع (ما قدرت العمر كلو بالغلط أغلط عليك وإنت عمرك كلو ظالمة والدليل غفراني ليك)، إذا عاينت لهذا المقطع لا تجده أقل من (بتتعلم من الأيام) الذي أقول فيه (أقابلك وكلي حنية) أو (أقابلك في زمن ماشي) أو (مشي أمرك يا قدر) لـ”صلاح مصطفى”. لا تقل عنها بالنسبة للرؤى العالية، حتى “صلاح إدريس” أبدع في أغنية (اعذريني) لدرجة جعلتني أنا و”صلاح” نفكر في وضعها في مصاف الأغاني في الزمن الحلو.
{ أول أغنية قدمتك للجمهور؟
_ ثلاث أغانٍ لا أنساهم، أول حاجة (إنت يا الأبيض ضميرك)، وجاءت توأم الأبيض ضميرك (مشي أمرك يا قدر)، الأغنية الثالثة (عيش معاي الحب) لـ”صالح الضي”.. هذه الأغاني الثلاث لعبت دوراً كبيراً في تقديمي للناس.
{ في إحدى المرات (اتغالطت) مع “عصام محمد نور” عن أجمل أغنية غناها “صالح الضي” وكان رأيه (بتتغير) وأنا رأيي (عيش معاي الحب) وكلا الأغنيتين من كلماتك؟
_ نعم هذه الورطة وقعتها مع “حسين خوجلي”.. “حسين” يفتكر أجمل أغنية لي (بتتعلم من الأيام) وأنا أفتكر أجمل أغنية (عصافير الخريف) وكنا الاثنين مستضافين على إذاعة المساء على الهواء أنا و”حسين” وقلت له يا “حسين” اسمع الأغنيتين ديل أنا الأب وأنا الأقرر أيهما الأجمل.
{ إنت تفتكر (بتتعلم من الأيام) أجمل أغنية كتبتها؟
_ لا.. (عصافير الخريف) هي أجمل أغاني.. و”حسين” يرى أن أجمل أغنية (بتتعلم من الأيام).. أنا يشرفني أن أكتب أغنيتين يكون لديهم الإمكانية ليمشوا في الزمن تاني خمسين سنة ويكونوا قاعدات، وإذا أصلو الليلة في أغاني نحن نسمعها عاشت حتى هذه اللحظة خمسين سنة أنا أثق تماماً أن (عصافير الخريف) و(بتتعلم) ح يبقوا خمسين سنة متوجات.
{ لكن “وردي” دائماً ما يقول إن أجمل أغانيه هي (أعز الناس)؟
_ دا “وردي”.. (أعز الناس) من الأغاني التي كتبتها في الأول التي تعدّ من الأغاني التي لعبت دوراً في توصيلي للناس، “وردي” عندما تغنى أعز الناس كان يغامر بي لأنني كنت شاعر في بداية مشواري، وهذا الشيء الذي أحببته في “وردي”، يمكن أعظم شاعر يكتب لـ”وردي” يمتنع عن ترديد أغنية له.. ولكن شاعر يمشي على الرصيف يمكن أن يغني له، “وردي” لا تهمه الأسماء لكن يهمه النص، و”وردي” انتشلني إلى الأضواء.
{ “وردي” هو الذي صعد بنجوميتك؟
_ نعم.. يعني فنان كبير زي “وردي” وأنا لسة في بداياتي ما كان مستعد يغامر، يعني زي “عثمان حسين” بعمري الشعري البسيط لم يكن ليغني لي في بداياتي.. وحوله “بازرعة” ومبدعون ضخمون ما كان سيذكر لي كلمة، ولكن “وردي” يتعامل مع النص ولا يتعامل مع الأسماء.. يمكن يرفض أغنية لـ”بازرعة” ويغني لشاعر لا يعرفه لأنه كتب نص حلو.
{ في فنانين كان لديك معهم علاقات ولم يرددوا لك أغاني كثيرة مثل “أبو عركي البخيت”؟
_ “أبو عركي” غنى لي أغنية (المسؤولية) وأغنية (قول ليه الكلمة دي) لكن ناس الإذاعة الله يسامحهم لا يبثونها.
{ “عثمان حسين” لم يغن لك.. لماذا؟
_ لأنني كنت صراحة حاسي إنه فنان يكتب له “حسين بازرعة” ما أفتكر في شاعر يقدر ينازع “بازرعة”.. بعدين “عثمان” كان مبهور بيه.. وهو غنى لـ”عوض أحمد خليفة” و”سعد أبو العلا” و”قرشي محمد حسن” وهؤلاء كانوا كباراً في ذلك الوقت وأنا في بداياتي ولا أستطيع الدخول وسط عمالقة، و”وردي” أدخلني وسط هؤلاء العملاقة بـ(أعز الناس).
{ “إسحق الحلنقي” بعيد عن كتابة الأغاني الوطنية.. لماذا؟
_ أنا ما بعيد وعندما قلت في عصافير الخريف (وأنا حالي في بعد الوطن دفّعني ضي عيني تمن) هذه لمسة تقف فيها.
{ وقتها كنت في الإمارات؟
_ لا.. كتبتها هنا ولكن إحساس الغربة كان موجوداً فيها، وأي شاعر يولد بغربة داخلية.. في حاجة كدا في أي مبدع ما تشبه الناس، بعدين عندك في (حمام الوادي يا راحل) الحتة البتقول (بلادك حلوة أرجع ليها بلاد الغربة ما بترحم) فيها إشارة للوطن.
{ ما سقته غربة ارتبطت بالبعد عن الحبيب لكن أنت عايشت كثيراً من الأحداث السياسية مثلاً الانتفاضة وثورة أكتوبر وغيرهما لم نجد في أشعارك إشارة لها؟
_ أنا أفتكر أن رب العالمين وظف الناس من ناحية وجود، الكروان مثلاً وظيفته يغرد، النسايم والجداول وظيفتها منح الراحة النفسية، يعني أي حاجة ربنا خلقها لشيء معين، معناها الموسيقار وظيفته أن يبدع موسيقى، والشاعر وظيفته أن يعطي من جماله للناس، هذه مسؤولية الشاعر وهو يعطي ممالك ليس فيها صوت رصاصة وفيها صوت كناري.. رب العالمين خلقنا كلنا ونحن موظفون لأشياء معينة، يعني نحن يا “محمد” لا نختار وطننا ولا نختار حتى أسماءنا ولا أبوينا لا نختارهم نأتي بصفة قدرية.. (إسحق وظيفته يكتب الشعر) بعد ذلك تكون أدواتك التعبيرية في كتابة الأغنية العاطفية تتجه لها.
{ الآن في عصر السرعة وأغاني السفح أنت عايشت أوضاعاً جمالية باهرة هل تحس بغربة الآن؟
_ والله بحس بغربة، غربة كمان مركبة، لأنه يأتيني إحساس بالعودة نهائياً للإمارات، لأن ما يحصل للأغنية الجميلة بقى موت جماعي، يعني أي مسرح وأي إذاعة تسمع غنا لا يشبه الغنا الكان زمان، يعني أنا أسمع أغنية مطلعها يقول (كيلو الحنان بي كم أنا عايزة نص كيلو)، وهنالك أمور كثيرة لا أريد ذكرها حتى لا ينفجر فيني شريان لذلك أفضل أصمت.
{ السبب في ذيوع وانتشار هذه الأغاني؟
_ نحن كنا زمان صراحة نقرأ شعر وسينما ومسرح على مستوى عالٍ جداً.. وأنا في مرحلة الصبا كنت اقرأ لـ”سارتر” و”جيكوب” و”نزار قباني” و”سميح القاسم” و”البحتري”، واقرأ عالماً من الأبعاد سواء أكانت كتابة مسرحية أو شعرية أو أي من ألوان الكتابات المعمقة بالبهجة والأبعاد، عندما آتي لكتابة أغنية أكتبها مؤسسة على جماليات معينة أشيلها في الدواخل ولكن الآن أي شخص كتب حرفين يقال هذا شاعر.. مثل أغنية (أضربني بي مسدسك).. هل هذه أغنية أم فيلم كاوبوي؟؟ فصراحة حالتنا أصبحت من ناحية اهتمام بالأغنية متفلتة.
{ المفردة نفسها تحرض على العنف؟
_ تحرض على اغتيال الجمال، المفردة بقت مؤلمة جداً، أنا واثق تماماً في الحفلات الناس تسمع بأرجلها وليس بإحساسهم، أول ما دقت الطبول المسألة كلها جاطت، عكس زمان.. زمان عندما يُغنى غنا الحقيبة الناس يجلسوا كأنهم في حالة جمال عالٍ جداً جداً. عشان كدا أغنية الحقيبة عاشت حتى الآن.
{ طيب هذا اتهام يرجع لكم كشعراء أنكم لم تستطيعوا مقاومة مد الأغاني الركيكة؟
_ نحن نفتكر أن ثورة الأقمار الصناعية كان لها دور أساسي في هذه المسألة، في الماضي لا تمرر أغنية ما لم تمر على لجنة النصوص.. أغنيات عظيمة جداً مثل أغنية (الأبيض ضميرك) و(بدري من عمرك) رفضتها لجنة النصوص لأن اللجنة كانت فعلاً تنظر للأغنية.
{ رفضت (الأبيض ضميرك)؟
_ نعم، لأن فيها كثافة من الأحزان كبيرة جداً واتهموني بأنني زدت الأحزان شوية (الدموع السايلة مني يا ما سالت حرقتني.. والظنون الحارقة قلبي كم شقتني وأرهقتني)، فـ”مكي قريب الله” قال لي يا خ ما ممكن من (إنت يا الأبيض ضميرك صافي زي قلب الربيع) تنزل بينا لـ(الدموع السايلة).
{ هم لم ينظروا لها بإحساس الشاعر؟
_ لا، بإحساس التقييم.
{ طيب كيف تغنى بها “الطيب عبد الله” بعد ذلك؟
_ هذه الأغنية فرضت على الناس عندما تغنى بها “الطيب عبد الله” بالصوت الجميل وأعطاها أجنحة حلقت جعلها تقتحم العواصف والناس احتضنوها، فالأغنية جاءت غصباً عن الإذاعة السودانية.