حوارات

المفكِّر والكاتب المعروف دكتور "النور حمد" في لقاء استثنائي مع المجهر (1)

*شعارات (التطهير واجب وطني  ولا زعامة  للقدامى) أخافت التقليديين فانقضوا على ثورة أكتوبر وأجهضوها في مهدها
*هرع طلائع متعلمينا إلى السيِّدين بعد الاستقلال وبدلاً أن يكونوا مفكِّرين ومنفذِّين لهما أصبحوا مرتزقة مال ومناصب
مقدمة
دكتور “النور حمد” مفكِّر وباحث وكاتب معروف له إصدارات نوعية في مجالات   عديدة وكتابات عميقة في السياسة والثقافة والأدب، وبرع الدكتور في تشريح الحالة السياسية السودانية من خلال استخدام أدوات الثقافة كمدخل لتحديد أسباب الداء. ومن بعد، “النور حمد” فنان تخرَّج في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ومصوِّر ورسَّام كاريكاتير متميِّز لهذا السبب احتفت إصدارات عديدة في السودان والمنطقة العربية بمنتوجه الفكري والثقافي والاجتماعي من خلال إفراد مساحات مقدَّرة له. و”النور” عرف بجرأة الطرح ومرافعاته القوية لكتاباته المثيرة للجدل  التي تقابل بردود فعل مختلفة، كما كان الحال حديثاً بالنسبة (للعقل الرعوي ومهارب المبدعين).
(المجهر) أجرت حواراً استثنائياً مع المفكِّر الدكتور “النور حمد” تناولت خلاله مداخل مهمة حددت مسارات الحركة السياسية والثقافية والاجتماعية في السودان بعد الاستقلال، ومن جانبه قدَّم دكتور “النور” قراءات وتفاسير مهمة مثلت إضاءة لكثير من الالتباسات التاريخية والسياسية التي ظلت تشهدها الساحة، كما تناول الحوار أطروحاته التي أخضعها مفكرين وكتاب كثر  للنقاش والتحليل، وأجاب عليها الدكتور بأريحيته وجرأته المعهودة، فماذا قال؟
حاورته – فاطمة مبارك
  {تحدَّثت كثيراً عن فشل الدولة السودانية في البناء الوطني من المسؤول عن هذا الفشل؟، وهل صحيح أن المستعمر كان سبباً في عدم تطوُّر الدولة السودانية؟
النخب هي المسؤولة وهي  التي أدارت صراع الاستقلال وخلقت بفهمها الخاطئ للسياسية، وبممارساتها المعوجة، نخباً أخرى جديدة، أتت من بعدها، وسارت على ذات الدرب من قصر النظر وقلة المحصول المعرفي، فيما يتعلَّق ببناء الدولة، وخلق وحدة وطنية واستقرار سياسي مستدام، إضافة إلى تحليها برذائل التكالب على المناصب والمنافع الشخصية. أما الاستعمار، فلا ينبغي أن نجعل منه مشجباً نعلِّق عليه فشلنا. الاستعمار، بطبيعته، مشغولٌ  أساسًا، برفاه البريطانيين في جزيرتهم، وليس برفاه السودانيين، أو غيرهم من أهل المستعمرات. وما أصابنا منه من منافع جاء عفواً. منافعنا منه كانت، في غالبها، منتجاً جانبياً by-product جاءنا نتيجة لاهتمام الاستعمار بمصالحه هو. ولكن، مع ذلك، ترك لنا البريطانيون مؤسسات عاملة تتسم بالانضباط، وخدمة مدنية ذات كفاءة، وبالاستقرار السياسي، إضافةً إلى بلادٍ بلا ديون، وسمعة دولية محترمة. نحن الذين شرعنا في تخريب كل ذلك، منذ فجر الاستقلال، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
{بعض الكُتاب تحدَّثوا عن علاقة ربطت السيِّدين بالمستعمر باعتبارهما قيادات دينية وسياسية. في أي سياق تفهم هذه العلاقة، وإلى أي مدى كانت خصماً على الدور الوطني؟.
نعم، ارتبط السيِّدان بالمستعمر، ولم يكن لهما، ولا للبريطانيين، مناص من ذلك الارتباط. البريطانيون يتبعون في سياساتهم ما ترسمه لهم مؤسساتهم الأكاديمية البحثية، وقد كانوا عارفين بتركيبة السودان الاجتماعية والثقافية، أكثر من طلائع متعلمينا، الذين كانوا خريجي ثانويات استغرقتهم صناعة الأدب، وظنوا أن المثقف والسياسي والقائد الوطني، هو الأديب المفوَّه. رأى البريطانيون أن السيِّدين هما من يجلسان، حقيقةً، على هرم البنية الاجتماعية السودانية القادرة على تثبيت الاستقرار، في المدى المنظور من التطور السياسي للسودان. ولذلك مال البريطانيون إلى السيِّدين وانصرفوا عن طلائع المتعلمين. غضب طلائع المتعلمين من البريطانيين، ولكن ما أن اقترب الاستقلال ولاحت المناصب، تناسوا حنقهم، وهرعوا إلى السيِّدين. وبدلاً من أن يصبحوا مفكِّرين ومنفذِّين للسيِّدين، أصبحوا تابعين لهما، أو بعبارة أكثر حدة، أصبحوا مجرد “مرتزقة” مناصب ومال ووجاهة اجتماعية. هكذا، فقد طلائع متعلمينا ومثقفينا سلطة المعرفة، وأضاعوا هيبة المثقف، منذ اللحظة الأولى. بذلك، قل احترامهم، وانهدمت صورتهم. فأنا لا ألوم السيِّدين، ولا البريطانيين، بقدر ما ألوم طلائع المتعلمين الذين أضاعوا اللحظة السيكولوجية التي كان يمكن لهم أن يصبحوا فيها عقولاً وأيادي للطائفتين تقود ماكينتي الطائفتين الضخمتين، بدل أن يصبحوا منقادين لهما. وقد عالجت هذه المسألة بتوسع في ورقتي: “فوقية الحداثيين”.
{قلت في أحد اللقاءات إن ما كانت تمارسه الأحزاب الطائفية لا علاقة له بالديمقراطية، بحسب التركيبة السياسية والاجتماعية. إذاً، كيف يمكن بناء نظام ديمقراطي؟.
الديمقراطية لا تولد مكتملة.. فهي صيرورة process. أي  أنها تبدأ من بدايات بسيطة وتتطور عبر الزمن، فليس هناك مجتمع يولد مكتملاً وناضجاً ليمارس الديمقراطية في أعلى تجلياتها. بل إن الديمقراطية لا تكمتل، حتى بعد أن تصل مرحلة “الصوت الواحد للشخص الواحد”. أما في البلدان النامية، خاصة حديثة الاستقلال، حيث تصل نسبة الأمية إلى أكثر من (80%)، وحيث تكون وسائل المواصلات والاتصالات ضعيفة، وحيث توجد الطائفية والعشائرية، وحيث يكون البدو المتنقلون يمثِّلون ثلث أو نصف السكان، فإن الحديث عن ديمقراطية معافاة، خالية من العيوب، يصبح مجرد شعار للاستهلال السياسي، لا أكثر.
{برأيك لماذا فشلت الديمقراطية في الحالة السودانية؟.
 لم يصبر الحداثيون، من أهل اليسار واليمين، على الممارسة الناقصة للديمقراطية على يد الطائفتين. ومن هنا جاءت الانقلابات العسكرية التي أضاعت ثلاثة أرباع سني ما بعد الاستقلال، في الصراع العقيم. وخلقت تعقيدات لا تزال حلقاتها تتناسل  حتى هذه اللحظة، ومن جانبها، لم تصبر الطائفية  نفسها، على الديمقراطية، فقد طلب حزب الأمة، ممثلاً في رئيس وزرائه، “عبد الله خليل”، من الفريق “عبود” استلام السلطة حين رأى الاتحاديين يسلمون البلاد لمصر على طبق من ذهب. الشاهد أن تاريخ ما بعد الاستقلال في السودان  مليء بالتهريج السياسي. في تقديري، نحن بحاجة لأن نُخرج أرجلنا من الحذاء المفاهيمي الغربي، لنفكِّر في بناء ديمقراطية تناسب موقعنا في مسار التطور الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي لمجتمعاتنا. نحن لم ندر نقاشاً علمياً حول هذه الإشكالية، وإنما ظللنا ندير حولها صراعاً سياسياً شعارياً تناحرياً فجاً.
{كيف تنظر لمستوى الأداء الحزبي والأوضاع السياسية والاجتماعية الآن في السودان وما هي المراجعات المطلوبة؟
لا يوجد أداء حزبي مؤسسي في السودان يرقى لمستوى التقييم العلمي المنهجي. أحزابنا جميعها؛ التقليدي منها والحديث، لم تبلغ درجة الانضباط التنظيمي والإداري التي تُمكِّنها من أن تجعل من أحزابها مؤسسات، فالأحزاب الحديثة تشبه، إلى حدٍ كبير، الأحزاب الطائفية. ظل “حسن الترابي” زعيماً لتنظيمه لأكثر من خمسين عاماً، حتى وافته المنية. وظل “محمد إبراهيم نقد” زعيماً لتنظيمه، منذ موت “عبد الخالق محجوب”، إلى أن وافته المنية، هو الآخر. فلا فرق بين زعامة الحداثيين المؤدلجين، في هذا الجانب، وبين الزعامة الدائمة للسيد “محمد عثمان الميرغني”، أو السيد “الصادق المهدي”. فالبنية العقلية السودانية للزعامات، في كل التنظيمات السياسية، تتسم، على تفاوت بينها، بأنها بنية أبوية، عشائرية، بطريركية. فالقيادات في أحزابنا، بمختلف توجهاتها، كائناتٌ معبودة، لا ينحيها من مواقع القيادة والسيطرة، سوى الموت.
مجاري التحديث، وفرص تجديد الدماء، وتطوير الرؤى والمقاربات، مقفولة، لدى جميع الأحزاب، “بالضبة والمفتاح”.
 {ماهي المراجعات المطلوبة لإصلاح هذا الوضع؟.
 المراجعات التي أراها، من أجل إصلاح هذا الوضع، ينبغي أن تبدأ بعقد السمنارات والمؤتمرات، وفتح المنابر الإعلامية، بلا قيود، وتنشيط الأكاديمية، لمناقشة التطور السياسي للسودان من زوايا نقدية متحررة من مكبلات التحيُّزات السياسية. وكذلك مناقشة علل التعايش والتصالح مع التناقض وتجنب النقد الذاتي الشفاف. وكذلك تجنب نقد المسلك الملتوي، واللامبدئية المتمثلة في القيام بالانقلابات العسكرية، وفي تأييدها، ودعمها أيضاً. كما نحن بحاجة، أيضاً، إلى مناقشة ضرورة قيام المؤسسية والالتزام بالممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب نفسها. فالجميع، حتى الآن، أسرى لرؤاهم التاريخية، وللتخندق الدفاعي في تواريخ مضطربة، غارقة في الالتباس.
ودعونا ننظر لما قامت به حكومة الإنقاذ مؤخراً. وأعني هنا الغش والتدليس، الذي شاب، وبكثافة، ما أسمته “الحوار الوطني”، الذي أرادت أن تقول إنها تحدث به انفتاحاً على الآخرين، وتحدث به متنفساً من حالة الاحتقان السياسي. لكن، نتيجة لجنون السيطرة والتحكم، واعتماد منهج الإستراتيجيات الأمنية في الحكم، جرى طبخ النتائج مقدماً، وتبخَّرت مماحكات عامين كاملين، في الهواء، لتكون الخلاصة مجرد محاصصات بئيسة لشراذم أحزاب تعاني سكرات الموت.
{لديك رؤية مختلفة حول أدوار الأحزاب والتنظيمات في ثورة أكتوبر حدثنا عنها؟.
نعم، كتبت ورقة بعنوان: “ثورة أكتوبر من الأيقونة إلى التشريح”، نشرها مركز الدراسات السودانية في كتابه الذي أصدره بمناسبة مرور خمسين عاماً، على ثورة أكتوبر، خلاصتها أن ثورة أكتوبر ثورة اختطفها الحزب الشيوعي السوداني، وقوى اليسار الدائرة في فلكه، ولم تكن تهدف إلى إقامة نظام ديمقراطي. كما أنها كانت ثورة بلا رؤية وبلا طاقة للاستمرار. ويمكنني أن أقول الآن، إن وقفة ميدان التحرير في مصر التي جعلت نظام “حسني مبارك”، بكل جبروته، يجثو على ركبتيه، انتهت، على عظمتها، إلى الإتيان بدكتاتورية، أضعف وأقل كفاءة، من سابقتها، وأكثر عسفاً، وسوقاً نحو الانحطاط المعرفي والخلقي. فالثورة لا تنحصر في مجرد تغيير نظام الحكم القائم، وإنما ينبغي أن تمتلك الثورة رؤية، وقدرة على الاستمرارية، وعلى حراسة مكاسبها، وعلى نقل الأوضاع من مربع أدنى، إلى مربع أعلى. بغير هذه الشروط، تنتهي الثورة إلى ردة وانتكاس، وخلخلة للاستقرار، لا يأتي منها سوى الاضطراب لفترة طويلة، تصبح خصماً على مسار التقدم الكلي.
لقد ظلت أحوال السودان تسير نحو الانحدار منذ فجر الاستقلال، وقد كانت ثورة أكتوبر النقطة الأبرز، والمنعطف الأكبر، في مسلسل الانحدار. فاختطاف الشيوعيين لجبهة الهيئات، وجر الثورة الشعبية في وجهة ثورية ماركسية لينينية، تريد القفز على الواقع المتخلِّف، إضافة إلى رفع شعار: “التطهير واجب وطني”، وشعار: “لا زعامة للقدامى”، أخاف التقليديين، فانقضوا بكل ثقلهم على ثورة أكتوبر في مهدها  وأجهضوها. ومن هنا بدأ التفكير في الانقلاب على الديمقراطية نفسها، وحل الحزب الشيوعي، بعد عام واحد من ثورة أكتوبر.
تحالفت الطائفية، بحزبيها، مع الإسلاميين، لتعدل مادة الحريات في الدستور، وتطرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان، آخذة بثأرها نتيجة للتحقير الذي لحقها في أكتوبر. وهكذا، أيضا، جاء انقلاب “نميري”، استمراراً طبيعياً لمسلسل الثارات المتبادلة. فقد كان انقلاب “نميري” رد فعلٍ، لما قامت به القوى التقليدية، من حل للحزب الشيوعي، وما تبعه بعد ثلاثة أعوام، من محاكمة للأستاذ “محمود” بتهمة الردة. أيد الشيوعيون “نميري”، ومثَّلوا كابينة القيادة لانقلابه في السنتين الأوليين. وهكذا دخلت البلاد في احتقانات سياسية جديدة، وتعقيدات جديدة.باختصار، لم نقم حتى الآن، بمقاربات نقدية بها يتصحح المسار. لقد جعلنا من ثورة أكتوبر أيقونة معبودة، معلقة في الهواء، لا يطالها مبضع التشريح. ومن هنا جاء حديثي عنها بأنها ليست بالعظمة التي يظنها بها الناس. باختصار شديد، جرى إلباس ثورة أكتوبر هالة زائفة. 
{حسب ما فهمت، أن العمل السياسي الحزبي، يجب أن يفصل عن العمل الدعوي الديني. وقلت في ذلك، إن حركة النهضة التونسية فاقت من غيبوبتها. لكن دولة المدينة كانت أنموذجاً للإصلاح السياسي والاجتماعي، بمعنى أنها لم تفصل بينهما؟
بناء الدولة، في مستواه القاعدي، وخلق وحدة وطنية، وتحقيق حالة من الاستقرار السياسي، أمور لا علاقة لها البتة بطرح الشعارات الدينية. بل إن طرح الشعارات الدينية يجهض مشروع بناء الدولة الديمقراطية إجهاضاً كاملاً. بل يجهض بناء الدولة، من حيث هو، على إطلاق العبارة. وقد ثبت هذا عملياً بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم في السودان وأفغانستان. فهل نحن بحاجة لأدلة أكثر مما جرى لهذين البلدين الإسلاميين؟ لقد نهضت ماليزيا وإندونيسيا من غير أن ترفعا الشعار الديني، أو تدعوان لـ “تحكيم الشريعة”. ونهضت، أيضاً، تركيا، وكذلك تونس والمغرب، وإن كان بقدر أقل.
{إذاً أنت لا ترى ضرورة لرفع الشعار الإسلامي؟.
في تقديري، أن رفع الشعار الإسلامي، مثال: قيام “دولة الشريعة”، لدى الإخوان المسلمين، أو قيامة “الخلافة الإسلامية” لدى حزب التحرير، أو داعش، أو طالبان، أو بوكو حرام، تمثِّل، في جملتها، شعارات مأزومة، أنتجتها صدمة الصحو المفاجئ على مشهد تقدُّم الغرب، وتفوقه وهزيمته للمسلمين على جميع الصُعُد، بل واحتلال بلدانهم. طغت لدى رافعي شعار “تحكيم الشريعة” أو “قيام دولة الخلافة من جديد”، العاطفة الدينية الفجة على المعرفة الرصينة والنظرة العلمية الموضوعية. فشعارات “تحكيم الشريعة” و”إعادة الخلافة” شعارات ملتبسة نشأت من شعور بأزمة حضارية طاحنة، ولا غرابة إن افتقرت إلى المحتوي العملي والنظر الموضوعي. أيضاً هي شعارات للحشد والتعبئة للوصول إلى السلطة، ولكن بلا رؤية، وبلا رسالة واضحة.
{ ما تقييمكم لما فعلته حركة النهضة التونسية ؟.
حسناً فعلت حركة النهضة في تونس، حين فصلت بين العمل الحزبي والعمل الدعوي. وإنني على يقين أن بقية التنظيمات الإسلامية، ستصل، عاجلاً، أم آجلاً، إلى نفس النتيجة التي وصلت إليها حركة النهضة في تونس. لقد بهت الشعار الإسلامي في السودان بعد تجربة الفشل الذريع التي أضاعت على البلاد أكثر من ربع قرن. كما بهت في الأردن، وفي المغرب. فلوثة الشعار الديني والأشواق الدينية الغِرَّة، تلفظ الآن أنفاسها الأخيرة، أو تكاد. لقد أضاعوا على البلدان الإسلامية التي اكتوت بنار ديماغوغيتهم، نصف قرن كامل في الجدل العقيم والصراع والتخبط.
الدولة جهاز مدني، بطبيعته. وهو يدار استناداً على علوم الإدارة، والحوكمة، وعلى علوم الاقتصاد، والعلوم السياسية، والعلاقات الدولية، وغير ذلك من العلوم المتعلقة بشؤون التنمية المختلفة والتطوير والتحديث. إدخال الدين في هذا الإطار العملي، مجرد هراء، لا يقف وراءه سوى المهووسين دينياً، والجاهلين بأصول الحكم، وطرق بناء الدولة.
{هل يعني هذا أن نبني دول على النمط الغربي ؟.
لا يعني هذا أن علينا أن نبني دُولاً على النمط الغربي، حذو النعل بالنعل. فالدين والثقافة والتاريخ ستبقى في الخلفية لتعطي الدولة، وأعني هنا الدولة السودانية، تحديداً، هويتها التي تميِّزها، مثلما تعطي الثقافة المحلية لكل دولة هويتها المميزة لها. لكن، لابد من القول إن الحفاظ على هوية الأمة وثقافتها وسماتها المميزة هي مهمة أوعية الثقافة في المجتمع المدني وليس أجهزة الدولة. هذه أمور لا تتأتى عن طرق الإملاءات والإكراهات الحكومية. فاستناد نظام الحكم على الشعار الديني، فيما رأينا، وفيما سنرى، ليس سوى حيلة للسيطرة، ولمصادرة العقول، ووأد الحريات، وخنق حراك المجتمع المدني. هذا هو ما ظل يجري لدينا في السودان، عبر ربع قرن كامل انتهينا به إلى وضع الدولة على حافة الفناء. فقد تغوَّل حكم الإنقاذ على المجال العام، بصورة غير مسبوقة، فاحتله بأكمله، حتى جعل المواطنين، وعلى رأسهم المثقفين، والمهنيين، وكأنهم ضيوف في بلدهم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية