الخطاب عند الأبنودي كل المشاهدة!!
{ يقول الأستاذ “جلال العشري” وهو يقدم ديوان (ليالي الزمن المنسي) للشاعر المصري “مجدي نجيب”:
(ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدانُ
وفي شدوك شعرُ النفس لا زُور وبهتانُ)
{{{
(الشعر مُش بس شعر..
لو كان مقفى وفصيح
الشعر لو هز قلبك..
وقلبي.. شعر بصحيح)
يقول: (هذان المعنيان اللذان عبر عنهما شاعران مختلفان.. أحدهما من أصحاب الشعر العمودي التقليدي “عبد الرحمن شكري” والآخر من أصحاب الشعر الحر الجديد “نجيب سرور”، فضلاً عن فُصحى الأول وعامية الآخر، إن دلا على شيء فإنما يدلان على فهم صحيح لطبيعة الشعر وجوهره، على اعتبار أن الشعر في حقيقته شعور، وإن اختلفت صياغته أو تغير إطاره).
وصحيح أن كل شاعر يشعر.. بل كل إنسان، ولكن هناك فارق.. وفارق كبير بين الشعور الأصيل والشعور الدخيل، أو بين الشعور الصادق والشعور الزائف.. الأول وليد تجربة ومعاناة، أما الآخر فصدى التقليد والمحاكاة، وفرق بين الاثنين هو فرق ما بين الشاعر المطبوع والشاعر المصنوع، المطبوع هو الشاعر أما المصنوع فليس بشاعر على الإطلاق..).
(في أتون هذا الاختمار الجديد انبثق تيار الشعر العامي مواكباً لتيار الشعر الحر من ناحية، ومطوراً من ناحية أخرى لاتجاه الشعر الشعبي الذي استعمله “بيرم التونسي” في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي).
أكتفي بهذا من حديث الأستاذ جلال العشري.. وأعني بهذا أني قصدت وأنا أسجل حديثه في مقدمة هذا المقال لأقول إني أتفق معه تماماً في تعريفه للشعر الصادق.. ثم إني أقول إن خير مثال يجسد هذا الصدق هو شعر الأستاذ “عبد الرحمن الأبنودي”.. وأفرد هذا المقال وآخر لأتحدث عن تجربة “الأبنودي” في عمله العملاق (جوابات حراجي القط) التي يقول عنها الأستاذ الأبنودي – اسمه عبد الرحمن، أما والده فقد أصبحت قريته (أبنود) في أقاصي الصعيد فانتمى إليها وتسمى باسمها، وانمحى اسم أبيه وحتى اسمه هو أيضاً فأصبح “الابنودي” فقط – يقول مقدماً الديوان:
(إنه الديوان الوحيد في دواويني الذي إذا ما طُرح في الأسواق لا تعود إلي منه نسخة واحدة، فالناس معه على انتظار دائم.. يذهبون إلى أمسياتي الشعرية رغبة في سماع (حراجي) ولا يمكن تجاهل القراءة منه بين الجمهور وإلا عوقبت).
ثم يقول: (لا أظن أن للسد العالي الذي يحكي عنه الديوان دخْلٌ في شعبيته، وإنما كنت أستعمل رسائل الديوان في الدفاع عن السد العالي إبان الهجمة الشرسة المدمرة عليه..).
ويوضح سر حب الناس لهذا الديوان قائلاً: (ربما أدائي لشخصية “حراجي” و”فاطنة” وتلك العاطفة الفطرية القوية التي كشفت عنها الرسائل المتبادلة بينهما.. فكأني كنت أجد بأدائي الحالات المتباينة للعاطفة بين المحبين في لحظات الاقتراب والغربة، والسعادة والشقاء، وربما لأن اللغة التي نطقت بها الشخصيات كانت اللغة الحقيقية لذلك النوع المستقر من المشاعر في ضمائر أهل الصعيد الفقراء).
عبد الرحمن الأبنودي الصعيدي المثقف ثقافة واسعة وعميقة، لسانه (معطون) في لسان ولهجة أهل (أبنود) والصعيد.. تخرج من فمه الكلمة معطرة بلبن الفِطرة الذي لا يغير طعمه الزمان ولا المكان ولا حتى التخصص في اللغات.. ولهذا حين يقرأ شعره يصبح الشعر غيمة من الإبداع والاستغراق في النشوة والتَّوق لمزيدٍ من الدهش والإدهاش.
ولهذا فهو الشاعر الثاني بعد “مظفر النواب” الذي تشتهي الأذن قراءة شعره، وتتوق العيون لتسمع نبرته المجلجلة والرخوة معاً..
وعبد الرحمن – دعني أريحه برهة من “أبنود” – شاعر غزير الإنتاج، له (24) إصدارة كلها – أو لنقل معظمها – طُبع عدة مرات، فمثلاً ديوان (جوابات حراجي القط) طُبع (6) مرات 1969 – 2001م..
ومن دواوينه: (الأرض والعيال، الزحمة، أحمد سُماعين، أنا والناس، صمت الجرس، المد والجزر، الموت على الأسفلت، آخر الليل، الأحزان العادية، وبعد التحية والسلام) وغيرها، وقد اهتم اهتماماً كبيراً بتوثيق ودراسة (سيرة بني هلال) وتُرجمت دراستُه هذه للغة الفرنسية..
(وجوابات حراجي) هذه التي أنا بصدد تقديم مقاطع منها.. لها قصة يقُصها الأبنودي في هذا الديوان.. فيقول:
(لقد كتبت هذا العمل مرتين.. لم يحدث لي ذلك من قبل ولا من بعد.. مرة عام 1966م وحدث أن اعتُقلت.. فلملمت المباحث العامة في ذلك الوقت كافة أوراقي المكتوبة بخط يدي، وكانت بينها مخطوطتي (حراجي وفاطنة) وحين أردت استرداد أوراقي بعد الإفراج عني في 1967م ساومتني المباحث على التعاون معها لتعيد لي مخطوطتي، فسلمت أمري لله واعتبرت أني لم أكتبها، وحاولت نسيان ما كتبت فلم أفلح.).
ثم يستطرد فيقول: (عشتُ النكسة وحرب الاستنزاف في السويس بين فلاحين وصعايدة لا يختلفون كثيراً عن (فاطنة وحراجي).. وفي ضحى يوم شتائي مشمش هتف بي (حراجي).. فامتشقت أوراقاً وأقلاماً، وفرشت لي “سيدة” ابنة عم “إبراهيم أبو العيون” حصيراً تحت شجرة مشمش خلف بيتهم على شاطئ قناة السويس.. لتندلع الرسائل متتابعة بكراً كأني لم أكتبها من قبل.. أنجزتُ كتابة الديوان في أسبوع..
حين زار “الأبنودي” السودان لأول مرة قرأ حكايات (حراجي).. كل ليلة كان يقرأها مرتين مستجيباً لرغبة الحضور.. وربما لأن (عامية) مصر ودارجة أهل السودان ينبعان من نفس النهر.. نهر الصدق في الشعور والتلقائية في النظم..
أما لماذا أكتب الآن عن ديوان صدر عام 1969م وبعد أن جرت فوق صدري عدة أنهر من أنهر الزمن.. ربما لأني لم أتلقَّ خطاباً حميماً منذ سنوات.. فقد كان الخطاب كما يقول أهلنا في القرى (الخطاب نص المشاهدة) وأصبح ساعي البريد الآن من فائض العمالة.. وحتى لو وجدت خطابات فهي خطابات رسمية، أما الخطابات التي تتحدث بالنبض الحرَّاق على الأوراق المعطرة فقد فات فينا زمان تلقِّيها.. لهذا قلَّبتُ كتبي.. ورسيتُ على بر “الأبنودي”.. وأعادتني (جوابات حراجي) لذاك الشجن القديم.. لهذا أستأذنُ في أن أفضَّ (الظرف) وأفتح الجوابات معك، ربما في تصفحها سنعيدُ لبعض أيامنا بعضَ عطرٍ نفد، ونرتوي من عطش جفاف الزمن وخيانة الفضائيات في اغتيال أماسينا وسهراتنا.
قبل أن نقرأ جزءاً من الخطابات أرجو أن أشير إلى بعض الملاحظات فأقول:
– عدد الرسائل في الديوان (24) رسالة، بدأت بجواب من “حراجي” لزوجته “فاطنة”، وانتهت بخطاب أيضاً من حراجي لزوجته..
– حرص الأبنودي في ديوانه على أن تكون الكتابةُ في الديوان كالكتابة في الخطابات العادية على الورق (الفلسكاب) وبخطِّ اليد..
{ يكتب “حراجي “الخطاب بهذه الصيغة على (ظرف الجواب):
الجوهرة المصيونة
والدرة المكنونة
زوجتنا فاطمة أحمد عبد الغفار
يوصل ويُسلَّم ليها في منزلنا الكاين
في جبلاية الفار
وفاطنة ترسل الخطاب في جواب يقرأ:
أسوان..
زوجي الغالي..
لأوسطي حراجي القط
العامل في
السد العالي..
{ كثيراً ما يرد في خطابات (فاطنة) حديث عن البُوسطجي (البسطاوي) وهو شخصية مهمة في (جبلاية الفار)، فهو ليس ساعي بريد فقط، وإنما هو الذي يتولى لصاحب الخطاب قراءة الخطاب.. ولهذا فهو أمين سر كل القرية.. وأهل القرية ينتظرون طرقه على الباب ويعود مُحملاً بالجبنة والبيض بعد أن يشرب الشربات والشاي!!
{ نلاحظ أنه يقول “فاطنة” بدلاً من “فاطمة” وأحياناً (مراتي).. وأحياناً (زوجتنا) وهي أي فاطمة تبدأ الرسالة: زوجي الغالي!!
{ دعوني أقوم بدور (البسطاوي) وأقرأ (لفاطنة) الرسالة الأولى..
– ملحوظة الرسالة جاءت بعد شهرين من سفر “حراجي” لمنطقة (أسوان) بالسد العالي.. وكان قد وعد زوجته في محطة السكة الحديد بأنه سيرسل الخطاب حال وصوله لأسوان، و”فاطمة” نفسها قالت له في لحظة الوداع لا أصدق ستنسانا.. وصدق حدس “فاطنة” وجاء الخطاب بعد شهرين لهذا يبدأ الجواب:
شهرين دلوقت..
من يوم ما عنيكي يا فاطنة..
بلت شباك القطر
لحظتها قلت لك..
قبل ما عوصل.. عتلاقي جواب جي – (حأصل) – (ستلاقي)
نهنهتي.. وقلتي لي بعتاب
(والنبي عارفاك كداب
نساي
وعتني أول ما عتنزل في أسوان – (وعدتني)
ما عرفت ساعتها يا مرتي أضحك والا أبكي
ما عرفت ساعتها إذا كنت بعوز القطر يقف والا
يولي
حسيت بعَنيك الحيرانة يا فاطنة بتقوللي..
وتسكت
وتقوللي..
سامحيني يا فاطنة ع التأخير
ولو الورقة يا بنت الخال تكفي
لأعبي لك بحر النيل والله يكفي
كلام..
{ وبعد أخي القارئ.. ألم (تنهنه) والشاعر يتمنى.. آه من أمنية.. وددتُ لو أعبئ مثله بحر النيل بكفي لك لتروي جفاف الأيام التي بلا خطابات.. نواصل في صباح الأحد.