بعد ومسافة
دعوة مباركة وأيهما أقرب إلينا.. أهل الكتاب أم المشركون؟
مصطفى أبو العزائم
لا أرى سبباً لأن تقوم دنيانا في السودان ولا تقعد بسبب ما دعا له السيد “مبارك الفاضل المهدي” حفيد الإمام “محمد أحمد المهدي” قائد الثورة الدينية الكبرى بالسودان – للتطبيع مع دولة إسرائيل؟.. نعم، ليس هناك ما يستوجب كل هذه (القومة والعقدة) وهذه (الهيصة) التي تشغل الناس عن قضاياها المهمة، إذ أن السيد “مبارك الفاضل المهدي” لم يكن (أول) من طالب بالتطبيع مع إسرائيل والاعتراف بها، فقد سبق آخرون، لكنه ميَّز نفسه بأنه كان (آخر) من طالب بالتطبيع مع إسرائيل، وقد سبق كثيرون إلى ذلك، بل إن إحدى عضوات مجلسنا الوطني الموقر سبق لها أن قامت بزيارة إلى (تل أبيب) بدعوى الوقوف على أحوال بعض أبناء دارفور الذين اختاروا إسرائيل مهجراً طوعياً لهم، بل إن إحدى الحركات المتمردة التي يقودها ثائر يساري هو “عبد الواحد محمد أحمد النور” افتتحت لها مكتباً في دولة الكيان الصهيوني، هو في تقديره نواة لأول مكتب تمثيل رسمي من جانب حركة “عبد الواحد” من طرف واحد – إلى حين الاعتراف الرسمي والتمثيل المتبادل بين البلدين حال انتصار الثورة التي يقودها “عبد الواحد” ويحلم بسيطرتها على البلاد وإنهاء حكم نظام الإنقاذ ذو الصبغة الإسلامية.
هنا – بالقطع – مربط الفرس السياسي، حيث ثار البعض وهاج وماج وملأ الدنيا ضجيجاً، متسائلين كيف يقبل نظام الخرطوم أن تنطلق الدعوات من داخله للتطبيع مع إسرائيل والاعتراف بها، وهو نظام إسلامي التوجه!
هذه الحجة بالمنطق السياسي ضعيفة وواهية، إذ أن اليهود وهم من أهل الكتاب أقرب للمسلمين من أهل الشرك والكفر وعبدت الأصنام، ومن بين هؤلاء الأخيرين يقيم السودانيون علاقات دبلوماسية كاملة وعلاقات تعاون في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية، وتحفظ كتب التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية الشريفة أن النبي والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) مات ودرعه مرهونة – لدى يهودي، بل ووقع مع المشركين أنفسهم اتفاقيات الصلح – صلاح الحديبية – الذي أسماه المسلمون فتحاً بعد أن لمسوا فائدته وانتشار الدعوة مع وضع السلاح.
إسرائيل الآن أضحت أمراً واقعاً، وكثير من الدول العربية والإسلامية تقيم معها العلاقات في العلن والسر، ويبقى السودان وحده – نعم وحده – سجيناً في قفص اللاءات الثلاث منذ حرب يونيو 1967م، بينما العلم الإسرائيلي يرفرف في كثير من العواصم العربية والإسلامية، بينما مواقف كثير من تلك الدول أصبح يضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما ينفع، مستندين في تعاملهم أو تطبيعهم أو اعترافهم بإسرائيل على أن الجامعة العربية نفسها دعت إلى الاعتراف بإسرائيل حال انسحابها من الأراضي الفلسطينية المحتلة وحال اعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني. وهذا غير تقديرات قادة تلك الدول لمصالح دولهم وحماية أمنها الوطني.
مطالبات القيادات الآن في كل دول العالم بالحوار ودعواتهم لمحاربة الإرهاب، إنما تؤكد على أن الصراع بين المسلمين وأهل الكتاب من مسيحيين ويهود، إنما هو (خلاف) في المعتقدات – لا القيم – وهو خلاف (طبيعي) يحدث بين البشر، لكنه خلاف يقوم على الحجة والبيان من خلال (الدعوة) ولا ينتظر أن يكون سبباً للعداء والمواجهة الدموية في الشريعة الإسلامية وفق ما هو متفق عليه في كل المذاهب.
لذلك لا نرى سبباً لكل هذا الذي يحدث، فالسيد “مبارك المهدي” إنما عبَّر عن قناعاته وتوجهاته وهو سياسي جاء ضمن تركيبة حكومة للوفاق الوطني، ولا يصح أن نطالبه بالتجرُّد من قناعاته وتوجهاته السياسية، ولكن على مخالفيه أن يقارعوه الحجة بالحجة من المنابر الإعلامية، مثلما استخدمها هو نفسه منطلقاً ومنصة لأفكاره ومعتقداته.