بعد ومسافة
النيل يبدأ في الثريا مع فتحي إمبابي
مصطفى أبو العزائم
روائي ومهندس مصري صنع لنفسه مجداً ذي ثلاثة شعب، هي النيل والأرض والإنسان، ويتجلى ذلك في كل أعماله تقريباً، لكنه يتأكد بصورة أقوى في واحدة من أقوى وأرق أعماله الروائية، وهي رواية (عتبات الجنة) للروائي الذي نفخ روحاً جديدة على فن الرواية المصرية والعربية الأستاذ المهندس “فتحي إمبابي” والتي تكشف عن توغله في الجغرافيا إلى أعماق أفريقيا حيث منابع نهر النيل، ويحكي من خلالها الكاتب بلغة سردية ساخرة ملحمة اثني عشر ضابطاً حكمت عليهم سُلطة الاحتلال بالإعدام لاشتراكهم في الثورة العرابية، ثم خفضت الحكم عليهم وقررت نفيهم إلى منابع النيل لمراقبة مقاييسه، لكنهم عاشوا بقية أعمارهم يعلمون الأفارقة فنون وأصول الزراعة ويحاربون تجارة الرقيق.
الروائي المصري الكبير “فتحي إمبابي” بيننا هذه الأيام، عاد قبل يومين من مدينة (ود مدني) وتحلقنا نحو اثني عشر مهتماً بالأدب والثقافة والفنون حول مائدة طويلة جلس هو على رأسها جهة الجنوب داخل منتجع “الثريا” بأم درمان على شارع النيل قريباً من الطابية، وليس ببعيد عن ملتقى النيلين الأبيض والأزرق حيث يبدأ النيل من هناك.
اجتمعنا بدعوة كريمة من الأستاذ “عوض حسن إبراهيم”، الأمين العام لمجلس الشباب العربي الأفريقي، الذي كان قد نظم جائزة أفرايبا مؤخراً، واستبقى الروائي الكبير لأيام يتلمس خلالها ملامح المجتمع السوداني ويتعرف عليه بالاختلاط والرحلات ولقاءات النخب، ومن بين تلك اللقاءات لقاء (الجمعة) الذي تلقينا الدعوة له من ابننا الأستاذ “محجوب أبو القاسم”، وضم الأستاذة “بثينة خضر مكي”، رئيس منتدى “بثينة خضر مكي” الثقافي للإبداع والتنوير، مع عدد من أعضاء المنتدى وهم الأساتذة “عز الدين ميرغني” والدكتور “هاشم ميرغني” والدكتور “الحسن محمد سعيد” و”ايمن عبد الله”، و”العباس علي يحيى العباس” و”أحمد عوض”، الأمين العام لنادي القصة السوداني، والدكتور “هباني الهادي” القيادي الشاب وآخرين.
ناقشنا خلال ذلك اللقاء الممتع داخل الثريا الأم درماني البالغ البهاء والعظمة، والذي تؤول ملكيته لأحد أبناء العاصمة الوطنية البررة السيد “الأمين البرير”، ناقشنا أموراً عديدة من بينها ثراء الرواية والقصيدة السودانية واحتشادها بلغة عربية رفيعة، ومفردات كأنما تجئ حكراً لأبناء السودان، وقد تساءل الأستاذ “فتحي أمبابي” عن السر وراء ذلك، وقد أدلى بدلوه اعتماداً على التحليلات الأدبية عن استخدام السودانيين للغة العربية منذ دخول العرب إلى السودان، ثم دخول الإسلام وانتشاره، بعد ذلك إضافة اللغة العربية القديمة التي لم تتشوه، وقد أضفت إلى ذلك أن أثر الخلاوى كان كبيراً في استخدام تلك المفردات، إضافة إلى أن الكثير من المفردات الدارجة السودانية تعد إلى أصول عربية فصيحة.
وجدت أنني أمام نوعية خاصة ومتفردة من الأدباء والمثقفين السودانيين من مختلف المشارب الفكرية، وناقشنا علاقة الأيدولوجيا بالثقافة، واتفقنا على أنها سجن كبير للثقافة، واستشهدت على ذلك بالأدب الروسي القديم قبيل الثورة السوفيتية الكبرى عام 1917م حيث لم تنجب لنا تلك البلاد أدباً مثل أدب “تولستوي” و”تشيكوف” وغيرهما من الروائيين والقصاصين، ثم ناقشنا أمر الترجمة من لغة إلى لغة وإن كان يفسد أصل الرواية، واتفقنا على أنه لا يفسدها إلا إذا كان عبر لغة وسيطة، وهذا ما منعته دول الاتحاد الأوروبي مؤخراً بمنع الترجمة عن لغة غير اللغة الأصل.
النقاش الثر ومداخلات الروائي الكبير الأستاذ “فتحي إمبابي” جعلني أخرج بنتيجة مهمة وهي أنه يستغرق في تفضيلات مكثفة عن الزمان والمكان والبشر، وإن مجد الرواية عنده يقوم على النيل – مصدر الحياة – والأرض – مسرحها- والإنسان صانع الحضارات، وهو ما جعل بعض النقاد يصفونه بأنه رجل الإستراتيجية الطوبغرافية المتمكن الذي يعرف كيف بعد مسرح الرواية.
التحية مجدداً للروائي الكبير “فنحي إمبابي” لكل رموز الثقافة والأدب في ربوع وادي النيل الخصيب.