رأي

مسامرات

{ مشهد أول.. صامدون.. صامتون
 محمد إبراهيم الحاج
مشاهد حقيقية
 
ذات نهار قائظ كانت الشمس فيه تتوسط السماء وترسل أشعتها الحارقة على الناس، كان الطريق وقتها خالياً من المارة سوى من بعض الباعة الذين كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بـ(ملايات) قديمة و(خرق) بالية لا تمنع تسلل أشعة الشمس إلى أجسادهم المنهكة والمرهقة، كان العم “سليمان سيد أحمد” يجر أقدامه جراً يثقل من خطواته (شبشب) لم يترك له موضعاً لم تنتشه يد (النقلتي) ترتيقاً.. كان يحمل في يده (كيس عيش) لا تتعدى محتوياته أربع (رغيفات) وكان يطرق ببصره إلى الأرض بين الفينة والأخرى، ورغم كيس العيش ضئيل المحتوى والهمّ الواسع الذي كان يتبدى من هيئته المزرية إلا أن ابتسامة واسعة كانت تجمل وجهه المتغضن، وربما هذا ما أغراني للحديث معه فسألته بغير تردد: (السلام عليكم يا حاج)، فرد بصوت متلعثم: (وعليكم السلام)، ثم أردفته بسؤال آخر: (كيف عامل مع غلاء المعيشة؟) وقتها بدا كأنه كان ينتظر سؤالي هذا فطفق في الإجابة بإسهاب واضح قائلاً: (والله يا ولدي الحمد لله ربنا ما شق حنكاً ضيعو ورغم إن الحال صعب شديد ومرات الواحد ممكن يلقى فطور وممكن ما يلقى لكن ربنا كريم.. صاح مستحيل نلقى كل يوم سكر وعيش وأكل للأولاد في البيت.. والحد الأدنى في أوقات كتيرة ما بنقدر نوفرو ونفس الشيء على كتير من جيراني بس أغلبهم صامد.. وصامت).. وقتها جرجرت إقدامي أنا الأخر مبتعداً عن الشيخ بعد أن أثقلني بهمه.. وشعرت بعجزي وأنني لا أملك سوى أن أتعاطف معه بقلبي.. وقلمي.
{ مشهد ثانٍ.. ناساً حالها زين
كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً في شارع النيل الذي تتراص أمام ناظريه الفنادق من الفئات ذات الخمسة نجوم.. كانت السيارات تتابع في التوقف أمام الفندق الخرطوم الشهير، وكانت (الموائد) تتناثر بكثافة ظاهرة أمام الداخلين.. والناظرين على السواء وهي تمتلئ بأكثر من عشرين صنفاً من أنواع الطعام التي يجد من تعود عليها رهقاً وعسراً في معرفة مكوناتها.. وبدأ بعد ذلك حضور بشري يتكاثر ربما المناسبة هي لأحد وجهاء البلد وأثريائه.. اصطف الكثيرون أمام تلك المائدة.. للغرابة لم يكن من ضمن الحضور وجه (كالح) أو (مصرور)، لكنها كانت وجوهاً تضج بالحياة مرسومة الابتسامة.. تناول الحضور أقل من ربع الكمية المعدة للوجبة فيما تكفل صندوق القمامة بالتهام بقية مكوناتها (الباذخة).. وقلب وقتها رجل المراسم عينيه بين تلك الأصناف غالية الثمن وبين القطط التي كانت تراقب من مكان بعيد وهي تمني نفسها بوجبة (فاخرة).
{ مشهد ثالث.. سحق الطفولة
عند تخوم إحدى قرى غرب أم درمان التي زرتها مؤخراً حينما كانت درجة الحرارة في أوج قمتها ظهرت أبدان ثلاثة من الأطفال (الزغب) الذين لم يتعدَ عمر أكبرهم السابعة، كانوا يجرون أقدامهم جراً.. تغطي أجسادهم الـ(كملانة من لحم الدنيا) أسمال رثة، يحملون في أيديهم أواني بلاستيكية معبأة بمياه أظنها فقدت خصائصها المتعارف عليها فقد كانت ذات طعم غريب ولون أقرب إلى الحمرة، وبدا أنهم قادمون من مكان بعيد تغطي أرجلهم أحذية عتيقة وقديمة تقيهم شرور الأرض التي تمور من أسفلهم حرارة.. استوقفتهم لبرهة وسألتهم عن المكان الذي أتوا منه.. وتكفل بالإجابة أكبرهم سناً: (مشينا جبنا موية من الصهريج).. وحين رميت ببصري إلى موقع الصهريج الذي أتواً منه ألفته قابعاً في أقصى مكان بالقرية.. ثم لم يلبثوا أن أسرعوا بخطاهم متوارين بأجسادهم النحيلة.
عرفت وقتها طعم (وجع) أننا (نسحق) المستقبل ونترك أطفالنا لهوام الحاجة دون أن يطرف لنا جفن.
} مسامرة أخيرة
ما بين شوارع الخرطوم الغارقة في الوحل.. وأخرى ترفل في (المخمل)، تتململ (الإنسانية) و(العدالة الاجتماعية).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية