يا "الشفيع".. "فاطمة" في الحي.. والمصانع والبلد
وانطوت (85) عاماً من النضال
تقرير- رشان أوشي
وكأن السماء كانت تعلم أن الخرطوم بانتظار جسد أول برلمانية سودانية فامتلأت غيوماً، وكادت أن تنهمر دموعها حزناً عليها.
منذ التاسعة صباحاً بدأت حشود المشيعين تتوافد على مطار الخرطوم الدولي بوسط العاصمة، نساء ورجال وشباب، حيث جمعت جنازة “فاطمة أحمد إبراهيم” كل ألوان الطيف السياسي يميناً ويساراً ووسطاً، ولم يُستثنَ أحد من هذا الجمع الغفير، وحمل الشيوعيون أعلامهم الحمراء وصوراً للراحلة تحوي أبيات شعر مع بعض الهتافات الثورية التي اشتهر بها الماركسيون على مر التاريخ.
{ انتظار
ضاقت أرض المطار بنسوة من مختلف الأعمار توشح معظمهن بالثياب البيضاء تيمناً بالراحلة التي كانت تظهر دائماً في المناسبات الرسمية بالثوب الأبيض الذي اشتهرت به النساء العاملات في تلك الحقبة التاريخية، وأصبح فيما بعد زياً رسمياً لكل النساء العاملات، بينما ارتدت معظم الفتيات ثياباً سوداء حداداً على رحيل صاحبة لواء تحرير المرأة منذ خمسينيات القرن الماضي، حملن لافتات صغيرة وكبيرة تحوي صوراً للراحلة في مناسبات مختلفة، بعض منها في مقر صحيفة (صوت المرأة) التي تولت رئاسة تحريرها حتى توقفها عن الصدور، وأخرى وهي تجلس أمام مايكروفون في منابر جماهيرية مختلفة بعضها ندوات وأخرى خطابات جماهيرية، وظلت الحاضرات يرددن هتافات تمجد مسيرة المرأة في سبيل التحرر من السطوة الذكورية على حد تعبيرهن.. (عاش نضال المرأة السودانية).
وسط إجراءات أمنية مشددة استمر انتظار الطائرة التي تحمل جثمان الراحلة قادماً من عاصمة الضباب لما يفوق الساعتين، وامتلأت باحة المطار بقيادات في أحزاب الأمة، مثلتهم نائب رئيس الحزب د. “مريم المنصورة الصادق المهدي”، والقيادي بالحزب الناصري “ساطع الحاج” المحامي، ووزير الدولة بالخارجية الأسبق ممثل الحزب الاتحادي الديمقراطي (المسجل) د. “السماني الوسيلة”، والفنان الأشهر “أبو عركي البخيت”، والقيادي السابق بالحزب الشيوعي د. “الشفيع خضر” الذي وصل باحة المطار راجلاً، وانتحى بعيداً عن جموع الحاضرين، رافضاً الإدلاء بتصريحات للصحافيين.. وبعد انتظار ليس بالقصير تحرك جمع الحاضرين إلى صالة الوصول لاستقبال جثمان الراحلة بهتافات تمجد تاريخها في العمل العام حتى وفاتها عن عمر يناهز التسعين عاماً.
غادر الجميع راجلين وراكبين إلى دار الحزب الشيوعي بحي الخرطوم(2)، ومنها إلى مدينة أم درمان حيث منزل ذوي الراحلة بحي العباسية العريق، حيث احتشد أهل الحي في شارع الأربعين وخيمة كبيرة نصبت أمام المنزل مباشرة، في انتظار وصول الجثمان من الخرطوم.. كان الشارع المؤدي إلى منزل الراحلة يحتشد بالمشيعين، على رأسهم معتمد أم درمان “مجدي عبد العزيز” ومرافقوه، ورئيس حزب المؤتمر السوداني السابق “إبراهيم الشيخ”، والقيادي بحزب البعث العربي الاشتراكي “محمد ضياء الدين”، والقيادي بالحركة الشعبية د. “محمد يوسف”، وطلاب وشباب حزب الأمة حاملين أعلامه بقيادة الأمين العام للحزب “سارة نقد الله”، وشباب وطلاب الحزب الاتحادي الديمقراطي على رأسهم القيادي “ميرغني عبد الرحمن”.
قال عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المهندس “صديق يوسف” في تصريح لـ(المجهر): إن الراحلة “فاطمة أحمد إبراهيم” هي أعظم امرأة سودانية، حيث عملت في مجال قضايا المرأة منذ نعومة أظافرها ومنذ أن كانت طالبة إلى أن توفاها الله ظلت تناضل من أجل قضايا الشعب السوداني والنساء خاصة، وأصبحت أول امرأة تنال عضوية البرلمان في كل المنطقة العربية وأفريقيا. ونفى “يوسف” ما راج عن إهمال الحزب الشيوعي لـ”فاطمة” أثناء فترة مرضها خارج أرض الوطن قائلا: (هذا العزاء الكبير قام به الحزب الشيوعي مما يؤكد أن الحزب يحفظ لفاطمة نضالها الطويل).
من جانبه، أكد القيادي بحزب المؤتمر السوداني “إبراهيم الشيخ” لـ(المجهر): (الأستاذة فاطمة رمز كبير من رموز الوطن وقامة من قاماته السامقة، وأرست دعائم كبيرة في مجال انتزاع حقوق المرأة والمقاومة والصمود من أجل بناء الوطن وانتزاع الحقوق، وحقوق المرأة، خاصة في قضايا الأجر المتساوي للعمل المتساوي والترشح للبرلمان، ومقاومة القهر والطغيان)، وأردف: (فاطمة تستحق أن تسمى بها الشوارع والمؤسسات، وهي تعدّ رمز خالداً في ضمير كل سوداني وسودانية، وهذا الجمع الغفير الذي يشيعها الآن يؤدي جزءاً بسيطاً جداً من وفاء أهل السودان لفاطمة التي تتربع على قلوبهم وتستحق أن تسمى بها الشوارع والمدن والأحياء).
ومضى القيادي بحزب البعث العربي الاشتراكي “محمد ضياء الدين” في منحى سابقيه، وطالب في حديثه لـ(المجهر) بأن تقوم اللجنة القومية لتأبين “فاطمة أحمد إبراهيم” بالترتيب لتأبين كبير يليق بتاريخ الراحلة، ويشير إلى أهم المعاني التي تركتها، وأضاف: (فاطمة بحجم المعاني العميقة التي تركتها في وجدان الشعب السوداني، وهي لا تحتاج من أي شخص أن يمجدها، حيث أسهمت في تحرير المرأة السودانية من القيود التي فرضها المجتمع، متجاوزة بها الكثير من الحركات النسوية الديمقراطية في محيطنا العربي والأفريقي بل والعالمي)، وأردف: (فاطمة أحمد إبراهيم وصلت بنضالها الوطني إلى آفاق دولية، حيث تقلدت رئاسة الاتحاد النسائي العالمي.. فاطمة هي رمز سوداني يفوق الحزب الشيوعي لذلك تأبينها وتشييعها واجب على الجميع، وستقوم بالإعداد لتأبينها لجنة قومية تمثل القوى السياسية الوطنية الديمقراطية، والحركات النسوية، والأهل في حي العباسية وجموع أهل أم درمان).
{ الطريق إلى ميدان الربيع
تلاقى الحشدان في منتصف شارع الأربعين، حيث اضطرت شرطة المرور إلى إغلاق الشارع نهائياً أمام حركة المواطنين.. تلاقى القادمون من الخرطوم برفقة الجثمان والمنتظرون في منزلها، وشقت الهتافات سماء أم درمان.ز استقبل أهل “فاطمة أحمد إبراهيم” جسدها وسط الدموع، وبعدها تحرك الجميع إلى ميدان الربيع العريق بوسط حي العباسية لأداء صلاة الجنازة، وخلال دقائق وصل النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس مجلس الوزراء الفريق أول “بكري حسن صالح”، ووالي الخرطوم الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين”، ووالي شمال كردفان مولانا “أحمد هارون” للمشاركة في تشييع الراحلة باعتبارها رمزاً وطنياً يمثل كل الشعب السوداني.
حمل جثمان الراحلة الشباب من الناشطين في العمل العام من مختلف القوى السياسية، وظل موكب تشييعها من منزل ذويها إلى حيث الصلاة على جثمانها يردد الهتافات التي تمجد تاريخها النضالي، واستمر الأمر لقرابة نصف الساعة من وصول الجثمان إلى الميدان، الأمر الذي أغضب ذويها وحدث هرج كبير، حيث طالب أهلها المشيعين بالصمت قليلاً وإنزال الجثمان من العربة التي تقله للصلاة عليها باعتبارها شعيرة دينية.
{ مقابر “البكري”
ضجت باحة مقابر البكري بحي العمدة بأم درمان بحشود من المشيعين باستثناء الحشود القادمة من مطار الخرطوم، والأخرى القادمة من منزل ذوي الراحلة بحي العباسية، فلم يتخلف عن تشييع “فاطمة أحمد إبراهيم” أحد، من مختلف قبائل العمل العام، حيث احتشد كبار الصحافيين والكُتّاب والشعراء على رأسهم “محمد طه القدال”، والفنانون، والمحامون، والمثقفون، والقيادات الشبابية والطلابية، وقيادات المرأة، وأهل أم درمان من المواطنين البسطاء الذين تابعوا مسيرة الراحلة على مر عقود من الزمان.
{ مثواها الأخير
انهال التراب على جسد الراحلة “فاطمة أحمد إبراهيم” عصر الأربعاء السادس عشر من أغسطس عام 2017 مصادفاً الذكرى (71) لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني، وبقيت (85) عاماً من النضال الدؤوب لأجل قضايا آمنت بها الراحلة، وعملت لأجلها طيلة حياتها، حتى توفيت بعيداً عن وطنها الذي عشقته ونافحت عنه.. وقُبر جسدها به بعد منفى اختياري استمر لأكثر من عشرين عاماً غير متواصلة.