رأي

كادقلي الجميلة

التجانى حاج موسى
حتى وقت قريب كنت أحسب الريف الفرنسي وضواحي سويسرا والريف الإنجليزي أجمل بقاع الدنيا من ناحية الاخضرار والزهور والجبال والأنهار. لذلك لما سنحت لي الظروف زيارة تلك البقاع حرصت على التقاط صور لي في عِدة أماكن، الساحرة الجمال.. وكثيراً ما كنت أقلِّب ألبوم تلك الصور وأجتر ذكرياتي وأنا بين تلك الربوع، لكن والحق أقول زيارتي في الأسبوع الماضي لولاية جنوب كردفان وبالتحديد حاضرتها (كادقلي) جعلتني أغيَّر رأيي وأعلنها للملأ بأن تلك الولاية هي البقعة الأجمل على الإطلاق، ومشاهدتي وزيارتي لها جَبَّت كل الآراء التي أوردتها عن جمال تلك البقاع الأوروبية وكادقلي نمرة واحد.
وعن تلك الزيارة أنا لازم أحكي ليكم.. حمل لي أخي الأصغر وزميلي بصحيفتنا “يوسف عبد المنان” الدعوة وألحَّ عليَّ لأقبلها، والرجل من الأحِبة الذين لا أرد لهم طلباً، ويبقى “يوسف” من الود والمحبة ما يجعلني ألبي الدعوة، وزاد على ذلك أن الأخ اللواء “آدم أبكر” والي الولاية طلب منه ضروري “أجيهم” لحضور ختام مهرجان ولايتهم في نسخته الثانية.. كانت هنالك عقبة هي مشاركتي في لجان تحكيم مهرجان القوات المسلحة الإبداعي في نسخته الخامسة عشر، وأنا عضو ثابت في اللجنة الفنية التي تعمل على تقييم إبداع أهل الإبداع في مؤسساتنا القومية العسكرية، والحق أقول برغم رهق تلك المهمة، إلا أنني أجده رهقاً محبباً، لأني محسوب من أهل الإبداع.. عند الثامنة صباحاً حملت حقيبة صغيرة وذهبت إلى مقر السفريات الداخلية بمطار الخرطوم الدولي، أرجو أن يكون دولي بحق، لأنه والحق أقول يحتاج إلى عمل ليرقى به للدولية.. وهناك وجدت زمرة من رؤساء تحرير الصحف يتقدمهم نقيبنا الأستاذ “الصادق الرزيقي” وسعدت برفقة ابني الصحفي الديناميكي “قندول”، لاحقاً عرفت إنه شقا عصا طاعة رؤسائه بالصحيفة، وفي ظني أن “قندول” شليق، لكنه شاطر وبه صفات الصحفي النشط الذي يود أن لا تفوته الأحداث والمواقف، والأساتذة رؤساء تحرير “الصحافة” و”الرأي العام”، وجاءت الابنة الشاعرة المجيدة “داليا الياس” تنوب عن صحيفة “آخر لحظة” وبصفتها شاعرة تشارك بالمنتديات الثقافية.. المهم وفدنا كان محترماً فركبنا الطائرة إلى مطار الأبيض، قريب ده يبقى دولي – ما شاء الله – وهناك كان استقبال العربات التي سخَّرها لنا والي ولاية شمال كردفان مولانا “أحمد هارون” والي الولاية الجميلة، والرجل الديناميكي العملي القائد الهمام بإجماع الجميع، واحد قال (حقو يستنسخوا منو) ولاة!! يا راجل قول ما شاء الله (عليهو ما تسحروا)، لكن كان (حقوا يقول حقوا بقية الولاة يحاكوا) الصديق “مولانا أحمد هارون” في تجربته في العمل العام.
ركبنا وتوكَّلنا على الحي الذي لا يموت متوجهين إلى كادقلي، الطريق مسفلت جميل ما (زي) طريق مدني.. من مال المعونة الأمريكية تم تشييده.. والباقي شيَّدته الحكومة والفرق واضح بين الصناعة الأمريكية والسودانية، تلحظ ذلك بسهولة.. ونقول (برضو أمريكا قد دنا عذابها).
توقفنا في قرية (طيبة) مكان ميلاد “يوسف عبد المنان” وبالتحديد منزله ومنازل أهله وعشيرته الكرماء لنتناول طعام الإفطار، وهناك علمت أن “يوسف” ابن بار بأهله.. (حفر بير) تعمل برافعة، وماؤها حلو، تسقي الناس والسعيِّة، وكم طفل سمي بـ”يوسف” تيمُّناً به، ومدُّوا البسط والعناقريب والترابيز، وعلى رأس المستقبلين شقيقه الكبير المُكنَّى بالشاعر، وكان بحق شاعراً، وجدته يُعرِّفني حق المعرفة، وقرأ لي بعض أشعاره، ويبدو أنهم كانوا مستعدين لاستقبالنا، وطعمنا طعاماً طيباً شهياً، ومن أكلوا اللحم استلذوا بأكله، طبعاً أنا ما بأكل لحم!! لكن وجدت بدائل في العصيدة وحاجات تانية وعصائر بلدية.. وتحرَّكنا طوال الطريق كانت المرتكزات العسكرية كامنة تحت ظلال الأشجار وعلى مجرى الخيران، وبعد مسافة ليست بالقصيرة، دلفنا إلى وادي تحيط به الأشجار، يانع النبات تحيطه الخدرة من كل جانب، استقبلونا خؤولة “يوسف”، ويبدو أنهم كانوا في انتظارنا، ذلك المكان كان مرعى مواشيهم، ما شاء الله، كانت أعداداً مهولة.. شربنا اللبن الطازج وشاي اللبن وعقدوا لنا  مؤتمراً تحدَّث فيه كبار القبيلة، وأمَّنوا على قيمة السلام وشجبوا الحرب وويلاتها، وأبانوا لنا مطالبهم وهي بسيطة وممكنة، مدرسة تتنقل معهم  وشفخانة توفر لهم الدواء والعلاج، وهم ملتزمون بحق الدولة عليهم من زكاة أنعامهم.. أتمنى من زملائي رفقاء هذه الرحلة التاريخية أن يعكسوا ما شاهدوا وسمعوا، وتحرَّكنا صوب الدلنج، تلك المدينة التي اشتهرت بقلعة علمها ومهدها العريق، وعلى بوابة جامعتها استقبلونا أساتذتها وحرصنا على مشاهدة التبلدية بمنزل الأستاذ الذي خلَّدها بقصيدة عنها، وهنالك من أعضاء الوفد من درَّسه ذلك الأستاذ – له الرحمة –وزميلنا “صلاح” سالت دموعه وهو يجتر ذكريات صباه التي قضاها بالدلنج.. ومضينا صوب كادقلي وفوقنا السحب التي حجبت الشمس تماماً وأينما صوَّبت البصر تملأ عينك الخضرة الخلَّابة والطبيعة الساحرة والجو والمناخ الخريفي المنعش الجميل، وبين الفينة والأخرى تمر عربة تقل أبنائنا، بزي الميدان العسكري يحرسون الولاية ويدونا السلام ملوِّحين بأيديهم يا سلام عليهم!! الله يحفظهم من كل شر، ووصلنا إلى كادقلي الجميلة التي تحرسها الجبال المتوشِّحة بالخضرة.. أعتقد أن مقالاً وصفياً واحداً لا يكفي، إن شاء الكريم، سأكتب عن هذه الرحلة مرة أخرى أحدثكم عن أهلنا الطيبين في تلك الولاية البعيدة التي تمتلك ثروة عظيمة في باطن الأرض وفي روابيها وعن كنز السياحة العظيم الذي تذخر به.. نزلنا في نُزل بهيج أُعِدَّت فيه كل سبل الراحة والسعادة، وشاركنا بعض نجوم الغناء جاءوا للمشاركة من الخرطوم، وامتلأ إستاد كادقلي على سعته بمواطني كادقلي وربوعها المجاورة، وأضاءت الثريات الملوَّنة بالأنوار، وسمع الناس أشعاري وأشعار “داليا” ورقصنا وطربنا وفرحنا.. يتقدَّمنا الوالي الهمام وقادة الجيش والجميلة الصديقة الوزيرة “تابيتا”، يومها صممت على كتابة أغنية أكتب لكم نصها وأرجو أن يوفق صديقي الفنان الموسيقي المُطرب د.”عبد القادر سالم” في صنع لحن لها، وهذا أقلَّ ما نقدِّمه لكادقلي.
كادقلي الجميلة
حبيت كادقلي قلت أزورا.. وكانت دي الزيارة الأولى
أيام!! بس شوية عجولة
وفي أوصافا مهما أقول.. والله الوصف ما بطولا
مناظر تسحر الأبعاد تمجِّد ربَّك الخلَّاق
جبال مكسيِّة بالخضرة.. ساقيها الندى الرقاق
ويا روعة سلام أهلا.. يشيلوك جوه في الأحداق
ومِرحَات البقر والضأن.. ترتع في المراعي حبور
نعمة جليلة يا إنسان.. أحمد الله وليهو شكور
قريب تجاوز الأحزان.. ونمرح في سرور وحبور
شنو المانع يكون أخوان.. عشان تتوحَّد الأمة
وشنو الناقصنا في السودان.. غير النفرة والهِمَّة
انهضوا هبوا يا حبان.. ولازم نبلغ القمة
ما شفنا الحرب جابت حضارة وتنمية وتعمير
وما شفنا البلد تعمر وأهلوا يمارسوا في التدمير
سلام يا أهلي أحسن أخير بس لو نحسن التدبير

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية