المرضى العقليون.. مبدعون وأذكياء ومنتجون!!
إحداهن فصلت لنفسها (سترابليس) وهو فستان دون أكمام يسيطر على موضة هذه الأيام، تلك المرأة التي أتقنت تفصيل الفستان بمهارة بالغة اعتمدت كلياً في صنعه على مادة خام لا تخطر ببال كثيرين، إنها (الأكياس) المستخدمة في وضع النفايات، التي حولتها هذه (السيدة) من محض (نفاية) إلى صيحة تتنافس على إنتاجها أرقى بيوت الأزياء في روما وباريس، بالطبع لم تسوّق السيدة بضاعتها، بل حصرتها في الاكتفاء الذاتي، فظلت ترتدي فستانها الأنيق وتمارس هوايتها المحببة بالاستلقاء على رصيف الفاصل بين اتجاهي شارعي المعونة (بحري) المتعاكسين.
رجل آخر يبدو أنه فقد عقله حديثاً دأب على الظهور بزي رياضي وهو يمارس الجري ( في مكان واحد) على طريقة (خطوات تنظيم) العسكرية الشهيرة في مضماره المفضل جنوب تقاطع شارع السيّد علي مع شارع الزعيم الأزهري، وربما هنالك مغزى لا ندركه لاختياره هذا المكان تحديداً.
الرجل لا يفتأ ولا (يفتر) يرسل للعابرين على أرجلهم أو متن سياراتهم أحر التهاني القلبية بالعيد السعيد، وكأنه يستقبلهم بباحة بيته وليس في شارع عام وسط مدينة بحري، وبين تهنئة وأخرى يظل يردد عبارة ( شمبات، شمبات) موالاً يبدد به الصمت إلى حين.
حالات كثيرة لا تمثل السيدة والرجل المشار إليهما آنفاً سوى نموذج (صغير) من شريحة كبيرة منها، هؤلاء هم المرضى العقليون أو النفسيون، فهل يا ترى ما زالت ذاكرتهم تحتفظ بمواقف محددة وقصص محددة حدثت لهم أو لغيرهم قبل إصابتهم؟ وهل هنالك ثمة علاقة بين الإصابة بمرض عقلي وارتفاع معدل الإبداع في دواخل الفرد؟ هذه التساؤلات وغيرها حملتها (المجهر) إلى طاولة الخبيرة النفسية بمستشفى (طه بعشر) للأمراض العقلية، الدكتورة “سمية عبد الرحمن” فماذا قالت:
أذكياء ويتحدثون بالرسم
غالباً ما تكون للمرض العقلي خلفيات وراثية أو بيئية متعلقة بالمحيط الذي يوجد فيه المريض أو نتيجة لتأثير الضغوط، وأضافت: يتوقف استمرار الاضطراب أو الشفاء منه على الالتزام بالعلاج، بجانب مؤشرات أخرى ذات صلة كالدعم المعنوي من الأسرة والمحيطين بالمريض، كما للسمات الشخصية قبل الإصابة بالمرض من تعليم، ثقافة، ومعرفة أثرها على مدى الاستجابة للوصمة الاجتماعية، وغيرها من العوامل التي تؤثر إيجاباً على المرضى الذين يجدون اهتماماً من أسرهم، على جانب الدافعية الشخصية والفروق الشخصية الفردية.
ومضت “د. سميه عبد الرحمن” مفندة بعض الأفكار الشائعة عن المرضى العقليين وكيفية إصابتهم بالمرض بقولها: إنهم يعانون تأثير المرض على وعيهم وإدراكهم ما يحرمهم من مزاولة العمل، كما يحرمهم من حق الاحترام إذ يتعرضون للوصمة، خاصة بالنسبة للشريحة التي لا تتلقى علاجاً منتظماً، وأكدت أن المريض العقلي لا يُشترط أن يكون محدوداً في قدراته العقلية، ولا ينبغي أن يوصف بالغباء، إذ أن معظمهم وفقاً لتجاربي العملية معهم أذكياء، وهذه حقيقة علمية، فالمرض العقلي يؤثر على الإدراك والوعي وليس على الذكاء، رغم أنه يؤثر نسبياً وبشكل سلبي، حيثُ يرتفع إحساس بعض المرضى العقليين بالنقص والدونية ما يجعلهم يعبرون عن ذواتهم بأشكال مختلفة مثل الرسومات على الأسوار والمباني، واستطردت ” د. سمية” قائلة: وللتمييز بين المضطرب عقلياً والمصاب بالـعصاب (المريض النفسي) فإن الأول ينسحب من بساط الواقع كلياً، أما الثاني مثل مريض الاكتئاب النفسي، القلق النفسي، الوسواس القهري والهستيريا، فيتمتع بكامل قدراته الإدراكية لكنه يعاني اضطراباً انفعالياً ينعكس سلباً على مزاجه وقدرته على التركيز والانتباه ما يعيق تواصله الاجتماعي ويشل قدرته على الإنجاز.
الوصمة.. إفلاس معرفي!!
إلى ذلك أشارت ” د. سميه” إلى أن الوصمة تعتبر واحدة من مظاهر الإفلاس المعرفي في التعامل مع المريض على نحو يشعر ه بالنقص والدونية، فتتجدد معاناته وتزيد آلامه، مُبشرة المرضى العقليين بقولها إن الجهاز العقلي كغيره من أجهزة الجسم يمرض ويشفى، لكن الإنسان الذي لا يفقه ذلك يدعم استمرار المرض بسوء معاملته للمريض، فيخدش إنسانيته وبالتالي يرفع من معدلات الاستجابة، وهذا ما يفسر وجود مبدعين في المجالات كافة من فنانين، شعراء وكتّاب وما إلى ذلك بين هؤلاء، وأوضحت أن بعض المرضى الذين يعانون من الحساسية المفرطة يرتبط ظهور الأعراض لديهم بأحداث حياتية ذات تأثير عالٍ، إذ يدخلون من بوابات الإصابة ومحطة الحدث المؤثر ليجدوا أنفسهم وقد ألقى ذلك بظلاله عليهم على نحو لا يستطيعون الفكاك منه، فيرددون بين كل فينة والأخرى عبارات تعيدهم إلى محطة المبتدأ ما يؤكد احتفاظ ذاكرتهم بما وقع آنذاك.