بُعد ومسافة
“عبد الله زكريا”.. تحصيل ما في الصدور!
مصطفى أبو العزائم
ليس أمتع لأي صحفي من أن يحاور شخصاً ثرياً بالأفكار والمواقف المؤثرة على مسيرة العمل العام، ليس أمتع من ذلك، إلا أن يكون الصحفي المحاور ملماً بتفاصيل كثيرة حول الشخصية التي يحاورها، لذلك درجت على مراجعة سيرة كل من أود محاورته سواء كان ذلك للصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون، واستذكار كل تلك السيرة الذاتية مع العمل على معرفة المؤثرات التي حولها من ناس وأحداث ومواقف، ويكون العمل أمتع وأقيم إذا ما أحب الصحفي المحاور سيرة الشخص المحاور.
ظللت أعد وأقدم برنامج (صفحات من بلادي) لإذاعة بلادي منذ بداية انطلاقة بثها، وللحقيقة والتاريخ فإنه لا فكرة البرنامج ولا اسمه من مقترحاتي أو بنات أفكاري، إذ اتصل علىَّ قبل أشهر الأخ الصديق العزيز الأستاذ “شكر الله خلف الله” المخرج التلفزيوني المعروف، والذي شغل منصب مدير البرامج في الإذاعة الوليدة، وطلب إلىَّ تقديم البرنامج المُسمَّى سلفاً، وترك لي حرية اختيار الضيوف وحرية عدد الحلقات فاستحسنت الفكرة، وكان أول ضيف للبرنامج هو الشيخ الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد” وأجرينا معه حواراً مفصلاً على مدى أربع حلقات كاملة، كان عبارة عن ذخيرة من المعلومات والأسرار والأفكار حول سيرة الشيخ الجليل، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى محاورة الخبير الإداري والقيادي المايوي المعروف الأستاذ “حيدر حسين” حول سيرته ومسيرته وتجربته في الحكم والإدارة وتثبيته للحكم بالشريعة الإسلامية في ولاية كسلا، والذي كان قد أعلنه سلفه الراحل المقيم الأستاذ “محمد عبد القادر” ومضينا في رحلة التوثيق ثلاث حلقات، انتقلنا بعدها إلى أب الغابات في السودان الدكتور “كامل شوقي” المولود في 1922م، والذي سودن منصب مدير الغابات قبيل الاستقلال وعلاقته بأنظمة الحكم حتى إبعاده خلال العهد المايوي في الحملة القوية التي قادها اليسار لما أسماه بتطهير الخدمة المدنية ليتم استيعابه فوراً خبيراً في منظمات الأمم المتحدة ويعود للسودان ممثلاً لها، وذلك على مدى ثلاث حلقات كاملة مع الإشارة إلى أن زمن الحلقة هو ساعة إذاعية كاملة، أي حوالي الاثنين وخمسين دقيقة.
كل الذين أشرت إليهم سبق لي أن حاورتهم للصحافة أو التلفزيون حوارات ليست بذات التفصيل الذي أشرت إليه في البداية، ووضعت قائمة بأسماء الذين أرشحهم للحوار، وكان من بينهم أستاذنا الجليل “عبد الله زكريا إدريس” وما أدراك ما “عبد الله زكريا إدريس” والرجل كنت قد سمعت به منذ أيام يفاعتي وصباي وعن ذكائه الحاد ودوره في تأسيس الحركة الإسلامية والحزب الاشتراكي الإسلامي ثم توجهه نحو اليسار ليصبح عضواً وقائداً في الحزب الشيوعي الصيني، ثم عودته لليسار الإسلامي وعلاقته بقيادات الحزب الشيوعي السوداني وزعيمه الراحل الأستاذ “عبد الخالق محجوب” وتأثره بأستاذه الراحل المقيم الأستاذ “بابكر كرار النور” ثم علاقته بالزعيم “الأزهري” وهي علاقة قربى ودم، وعلاقته بالسُلطان “علي دينار” وبالرئيس “جعفر نميري” ودوره في التخطيط لانقلاب يقوده “نميري” نهاية عام 1969م، إلا أن جماعة أخرى تدخلت قدمت العقيد “جعفر نميري” ليكون رئيساً لمجلس ثورتها، وهنا تتكشف أسرار عجيبة، إذ يروي الأستاذ “عبد الله زكريا” في أطول حوار إذاعي أجري معه حتى الآن أسرار تلك الفترة ويكشف عن أحداث وعلاقات بين رموز سياسية عدلت وأبدلت الكثير في مسار العمل السياسي بالبلاد.
صديقنا المهندس “عبد الرحمن إبراهيم عبد الله” مدير إذاعة بلادي وصديقنا الأستاذ “مصعب المأذون” مدير البرامج الجديد كانا من أسعد الناس بالصيد الثمين الذي سيشد الآذان شداً للمتابعة خاصة عندما يتحدث عن علاقته بالشيخ الدكتور “حسن الترابي” ابن دفعته في حنتوب الثانوية وغيره من أبناء تلك الدفعة التي حكمت السودان، بل وأراد لها المرحوم “بابكر كرار” والمرحوم “جعفر نميري” وأستاذنا “عبد الله زكريا” أن تحكم السودان من خلال انقلاب عسكري قوامه ضباط الجيش من خريجي حنتوب، وتم تحديد موعده في ديسمبر عام 1969م، إلى أن حدثت المفاجأة التي جاءت بطاقم جديد لا علاقة له بالمرشحين لقيادة الانقلاب والبلاد.
الآن بدأنا في تحصيل ما في صدور القوم من أسرار رغم امتناع الكشف عن كل ما يعرفون، لكن كتابة التاريخ تتطلب الصراحة والوضوح، إلا في حالات نادرة.. وقليلة.