خربشات (الجمعة)
(1)
لم أشأ النظر لوجهها الوضئ الذي سكن في دواخله الحزن وأقام في مقلتيها الكدر والخوف.. وقلبها ينبض ولكنه يتمزق للزوج الذي رحل عن الدنيا.. مزقت جسده الرصاصات اللئيمة.. ولم تلقِ النظرة الأخيرة عليه فقد مات زوجها في أدغال الجنوب وقليل على الحدود مع دولة الكنغو، وهي لا تعلم هل دفن في الأرض التي حمل من أجلها السلاح أم انتاشت لحمه صقور الوادي وضباع الخلاء.. ودود الأرض؟؟ كانت تتحدث والكلمات تخرج بصعوبة بالغة من ثغرها اليابس وشفتيها الشاحبتين.. لم تبلغ سن الأربعين بعد ولكنها شاخت بالهم والحزن على وطن.. وأسرة وعقيدة.. وانتماء.. هي حفيدة السلاطين من الشلك في أعالي النيل.. خرجت من صلب قيادي كان له صوت ومواقف قدمته الجبهة الإسلامية القومية بعد سقوط مايو كقيادة من جنوب السودان مثلما قدمت الجبهة الإسلامية “الصافي “نور الدين” من دار فور و”موسى حسين ضرار” من جنوب طوكر.. و”عمر سليمان” من جنوب كردفان، و”ابن عمر محمد أحمد” من بادية الكبابيش، و”علي تميم فرتاك” من الفرتيت ببحر الغزال، والشيخ “بيش كور” من الدينكا.. و”حسن ساتي” من الدناقلة.. و”السنوسي” من البقارة.. وكان “منقو أجاك” خطيباً ورجل منابر ومواقف.. وثبات عند المحن.. ومن إخوان النوائب حينما تدلهم خطوب الحياة، كان “الشريف زين العابدين الهندي” يرسم لوحته الساحرة وهو ينظر إلى تقاطيع الوشم الذي ترسمه القبائل النيلية على خدود أطفالها تميزاً و”الشريف” يغني في هجعة الليل لوحدة وطن لم تحافظ عليها الأجيال الحالية.. وهو يقول للسودان الذي كان:
فيك ملوال غرس رمحو وتكلبو كراعو
وفيك شبل النوير في نيلو مد شراعو
وفيك رث الشلك حل المشبك باعو
لبس العاج سوار غطاهو هذا ضراعو..
(2)
طافت في الخيال صورة الجسور “منقو أجاك” يتحدث في دار الثقافة الإسلامية في الأبيض عن قوانين سبتمبر ويلهب حماس الجماهير قبل أن يقدم “علي النحيلة” د.”حسن الترابي”.. وابنة الشيخ “منقو أجاك” تذرف الدموع حسرة على حاضرها.. تتكئ على أحزانها العامة بانقسام السودان لدولتين وأحزانها الخاصة برحيل والدها الفاجع وقد شعرت باليتم مرتين.. الأولى حينما مات “منقو أجاك” ووري جثمانه التراب.. والمرة الثانية حينما قتل زوجها الشاب الإسلامي المقاتل في صفوف كتائب القعقاع.. وهو يشد الرحال متنقلاً من متحرك لآخر.. ويخطب في الجامعات عن الانتصار المرتقب للإسلام الحركي.
كان “حاتم شواي دينق” زوج ابنة “منقو أجاك” في طليعة تنظيم الطلاب الإسلاميين.. وفي طليعة المجاهدين مثل والده الراحل الصوفي “شواي دينق”.. ومثل شقيقته “فدوى شواي دينق”.. وحينما انفصل الجنوب وفقد بطاقة انتمائه لحي السامراب.. وأصبح أجنبياً في دار الاتحاد العام للطلاب السودانيين بالمقرن.. عاد وفي النفس شيء.. عاد وفي القلب حسرة.. وعاد للجنوب وفي العين دمعة.. ضاقت بـ”حاتم شواي دينق” مسارب السلطة في جوبا.. وحرمته حكومة “سلفاكير ميارديت” من حقوقه الإنسانية.. وخرج مع “رياك مشار” في رحلته المحفوفة بالمخاطر وفي طريقهم إلى دولة الكنغو حصدت روح ذلك الشاب الطائرات التي كانت تقذف في كل اتجاه لجز عنق “رياك مشار”.. مات الشهيد “حاتم شواي دينق” ونكبت أسرته الصغيرة مرة أخرى.. أظلمت الدنيا في وجه زوجته التي فقدت بطاقة انتمائها لوطنها السودان، وقد تم فصلها من وظيفتها كضابط إداري في محلية بحري.. مثلما تم فصل شقيقتها الضابط بجهاز الأمن والمخابرات وفصل شقيقها الموظف.. وأصبحت أسرة “منقو أجاك” غريبة في السودان.. وحرمت من الجنسية التي تمنح إلى الكاميرونيين والماليين والبوركينيين أي منسوبي دولة بوركينا فاسو.. وتصادق رئاسة الجمهورية بالجنسيات ويضعها “جمال الوالي” في جيوبه في انتظار وصول لاعبين من أفريقيا.. يتلاعبون باسمنا وبأموال السودان ولا يحققون بطولات لأنديتنا.. وأمثال “مجيبة منقو أجاك” تنزع عنها جنسيتها السودانية رغم أنف تقاليد الأمم المتحدة التي تمنح المواطنين المنفصلين عن الدولة الأم حقوقاً من بينها حق الاحتفاظ بالجنسية.. وحق عدم الارتباط بالدولة المنفصلة.. وإذا كانت الجنسية السودانية اليوم تثير مشكلات في التعاملات الدبلوماسية بعد أن حصل عليها السوريون اللاجئون لأرضنا.. وحرم منها الأشقاء من جنوب السودان.
(3)
“مجيبة منقو أجاك” تعيش اليوم في أطراف العاصمة الخرطوم.. تحدق في مقرن النيلين وتستعيد ماضي الذكريات في أيام السودان موحداً ووالدها قيادي في التنظيم الحاكم.. وهي ناشطة في صفوف حركة الاتجاه الإسلامي في الجامعة وتنظر إلى الوجوه التي كانت تعرفها ويعرفونها.. وتتحدث في التلفزيون.. وتقرأ عن هجرة الحركة الإسلامية لله بالطائرات وبالفارهات من صناعة اليابان.. و(تشوف) في “الزبير أحمد الحسن” الماضي القريب.. والبعيد ولكنها تبحث عن الحركة الإسلامية التي أفنى والدها عمره في خدمتها.. ولم يحصد إلا الكثير من الأسى وتشعر أسرة “منقو أجاك” اليوم بالخذلان.. لن تستطيع الأسرة العفيفة الشريفة أن تبيع أخلاقها وقيمها وتعود لجنوب لا تعرفه.. ولم يألفها.. و”مجيبة” أصبحت كل تطلعاتها في الدنيا.. أن يجد أطفالها مقعداً للدراسة في السودان وقطعة خبز نظيفة غير ملوثة.. وأن تجفف قيادات المرأة في حزب المؤتمر الوطني دموع الباكيات من أخواتهن الجنوبيات اللاتي يعشن اليوم في حزن وكدر وجوع ومسغبة.. وأن تبحث الحركة الإسلامية عن الإسلاميين الجنوبيين بعد أن فشلت في الوصول إلى شنقل طوباي.. ومراقين.. وحلفا.. وسنكات وكيقا الخيل.. وعوين جرو.
و”مجيبة “منقو أجاك” في عزلتها وحزنها وآلامها.. وفواجعها تستعيد في هجعة الليل وهي تسهر مع أحزانها أنغاماً كانت تترنم بها في سنوات الفرح وتتذكر قول “التجاني حاج موسى” بسمرته الجميلة.. وسنونه البيضاء وقلبه الحنون..
سنين مرت ومروا سنين براك عارف وبي أدرى..
و”مجيبة” تجسد لها كلمات “التجاني حاج موسى” حالها..
سنين مرت والحال يا هو نفس الحال
وفي جواي صدى الذكرى
وحينما تطوف بخلدها صورة “منقو أجاك” وهو يتناول كوب الشاي في الصباح الباكر قبل الخروج لقلب الخرطوم.
وجرحك يا غرام الروح لا طاب لا بدور يبرى
ده جرحك مهما طول وغار مطبوع فيني بالفطرة
وبين الذكرى والنسيان مسافة قريبة يا إنسان..
تستحي “مجيبة” من سؤال إخوانها الذين كانوا ولكنها تتسلح بإرادة قوية وصبر وإيمان عميق بأن المرء الذي أحبه الله وامتحنه في أعز ما يملك في هذه الدنيا.. و”مجيبة منقو أجاك” صورة لمئات الإخوان وآلاف الأخوات اللاتي تتمزق أحشاؤهن في اليوم الواحد أكثر من مرة لأن الوطن الذي كن يحلمن به قد تمزق لوطنين.. وأن “منقو” الذي كان يجمع السودانيين قد مات ومعه ماتت كثير من الأحلام والآمال والتطلعات.. حتى نلتقي (الجمعة) القادمة.