الديوان

"المك نمر" ما وراء الرحيل إلى الحبشة.. هروب أم فر وكر!!

ومن أشعار إعلاء الذات والفخر بها عند الجعليين تلك التي تغنت بها مجموعة ( عقد الجلاد) مع تحوير لمفردة مهمة، فبدلاً من (نحن أولاد جعل نقعد نقوم على كيفنا)، أبدلت المجموعة (جعل ببلد)، الأغنية التي  وصف فيها الجعليون أنفسهم وافتخروا فيها بمآثرهم وخصالهم وبسالتهم وما لا حصر له من الصفات ربما تصلح مدخلاً لما نحن بصدده من توثيق لسيرة أحد أهم و(آخر) ملوك الجعليين (المك نمر) الذي لا زال محل جدل ولغط كبيرين.
تنسب المجموعة التي استوطنت شمال ووسط السودان نفسها إلى القبائل العربية القرشية الكنانية التي اختارت من حوض النيل سكناً لها، في المنطقة التي تقع شمال  الخرطوم من الشلال السادس (السبلوقة) حجر العسل، إلى منطقة أبو حمد، وتعتبر مدينة  (شندي) العاصمة التاريخية لهذه المجموعة إلى جانب مدينة  المتمة، ويمتهن الجعليون الزراعة والتجارة ويقولون أن الأخيرة هي التي قادتهم إلى الهجرة داخل  السودان إلى بقاع ونواحٍ مختلفة، وتتركز قبائل المجموعة الجعلية في الولاية الشمالية، وولاية نهر النيل، وولاية الخرطوم، والجزيرة، وولاية شمال كردفان، كما ينتشرون في ولايات أخرى.
قيم ومعتقدات
لدى الجعليين الكثير من القيم والمعتقدات التي يعتزون بها، ولديهم أيضاً موروثاتهم الخاصة بهم التي تميزهم عن القبائل الأخرى ويتباهون بها مثل)البطان(، وهو الجلد بالسوط (طوعاً) و(اختياراً) في مناسبات الزواج في دلالة رمزية على الشجاعة والثبات والصبر على المكاره، كما يتباهون أيضاً بأخر ملوكهم ” المك نمر” الذي استمرت سنوات حكمه (17 سنة) من 1810م، إلى 1827م، تاريخ المحرقة الشهيرة التي أعدها للخديوي إسماعيل باشا.
 “سعيدة” دونها الحرق والموت
  ولـهذا (المك) شهرة تفوق كل من سبقوه ومن لم يلحقوا به، ومكانة عظيمة في قلوب (شعبه)، إذ ظل يمثل رمزاً لقوتهم ورجولتهم وشهامتهم ومصدراً لفخرهم حتى غدا مضرباً لخصالهم الطيبة التي يستمدونها من سيرة حياته المثيرة والمليئة بالنضال والكفاح من أجل الوطن جيلاً إثر جيل، فالرجل الذي ضاق ذرعاً بالإهانة التي وجهها له (الخديوي إسماعيل باشا) حين طلب منه دفع غرامة باهظة عقاباً له على إثارته للبلبلة والقلاقل على حد زعم (الباشا) الذي لم يكتفِ بهذا، بل زاد عليها بأن أبدى رغبته في الحصول على (سعيدة) زوجة المك.
وبسبب رفض (نمر) المساومة على (سعيدة) ضربه (إسماعيل) بغليونه، وكانت هذه (الضربة) هي القشة التي قصمت ظهر (الباشا) وانطلقت منها الشرارة الحارقة التي أودت بحياته وحاشيته حرقاً واختناقاً، حيث طوقهم الجعليون بعد أن دعاهم (الملك) إلى مأدبة عشاء كبيرة، وما أن امتلأت البطون وزاغت العقول حتى تم تطويقهم بالنيران، فلاقوا حتفهم جراء احتقارهم للمك وزوجته (سعيدة) وللجعليين عموماً.
فرار أم تراجع
تعددت الروايات في قصة هروب “المك نمر”، فالكثير لا يعرف حقيقة فراره بعد المحرقة التي أعدها للخديوي “إسماعيل” تاركاً وراءه أهله يواجهون انتقام “الدفتردار” وقتله للكثير من الجعليين ثأراً لقتل إسماعيل باشا، فهل ما حدث هو فرار أم تراجع لإعادة وتنظيم الصفوف؟
يحكى أنه بعد حادث الحريق لم يهرب ( نمر) مباشرة كما تصوره الرواية الشعبية، ويقال إنه قد دارت معارك كبيرة بين “المك نمر” و”محو بك” في المتمة، وبين “المك” و”الدفتردار” في النصوب وأبو دليق، وقد شاركت عدد من القبائل في هذه المعارك، بعد ذلك تراجع “المك” إلى مناطق حلفائه وظل يناوش الأتراك لزمن طويل.
قصة هروب “المك” تركت أثراً عميقاً في نفوس الجعليين، فهم يعتبرون أن الأمر كان وبالاً عليهم وفضيحة حلت بهم، فهروب قائدهم من أرض المعركة كان عاراً لهم، ولكن رغم ذلك يظل فخراً لهم.
فلاش باك
حلّ “إسماعيل باشا” بشندي في ديسمبر 1822 م، وأمر المكين “نمر ومساعد”  بالمثول أمامه، وحين حضورهما بدأ (الباشا) بتأنيب “نمر” واتهامه بإثارة القلاقل، ومن ثم عاقبه بأن أمره أن يدفع غرامة فادحة، قدرها (1000) أوقية ذهب، وألفي عبد ذكر، و4 آلاف من النساء والأطفال، وألف جمل ومثلها من البقر والضأن، هكذا تقول بعض الروايات التاريخية، لكن أستاذة التاريخ بالمدارس الثانوية ” علوية عبد الله السناري) قالت لـ( المجهر) إنه رغم اختلاف الروايات وتعددها في هذا الصدد، إلاّ أن ما لا يذكره التاريخ الرسمي في السودان كثيراً أن ” الباشا” أعجب بزوجة المك نمر (سعيدة) فطلبها ضمن (الغرامة)، ولما رفض “المك” ذلك أهانه”إسماعيل”  وقذفه  بغليونه في وجهه أمام الحاضرين، وقيل أن ” نمر” أخرج سيفه لكن “مساعد” أوقفه وتحدث إليه باللغة البجاوية حتى لا يفهم من هم في المجلس من الأتراك والمصريين، وهنا أضمر الملك  “نمر” في نفسه ما أضمر، وأبدى تقبله للأمر فأقام حفل شواء كبير للباشا وهو ذات الحفل الذي (شواه) فيه، قبل أن يهرب إلى الحبشة برعيته، ويجد هنالك حماية من ملكها الذي منحه مدينة أسماها (المتمة) لا زالت قائمة إلى الآن.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية