"اللوري" .. آخر عظماء السودان يرمق النجوع بنظراته الأخيرة
و”اللوري” إذ يحفر عميقاً في وجدان أهل السودان، فينحت بمسمياته وهياكله و(ماركاته) المختلفة في ذاكرة سودانية تتمدد ملايين الكيلومترات وما تزال تستعيد وتسترجع أصوات (البدفورد، التيمس، الهوستن، الزوز، وخلافهم)، وما زالت الشوارع غير المعبدة والردميات والأسفلت تشعر بحرارة وحميمية ضغط (لساتكها) في كل بقاع السودان الكبير.
وليل “اللوري” عجيب ونهاره افتضاح، ومن فرط عشق السودانيين له وعلاقتهم به نظموا فيه غناءً وشعراً وأسسوا له إيقاعات ورقصات، ما فتئ عاشقوه يرددونها ويحتفون بها إلى اليوم، فتعالوا نسمع منهم:
خلو البامبي جبنا ليهم بطيخ
يقول سائق “اللوري” “أحمد محمد أحمد” أنت تسأل عن تاريخ، وبالتأكيد رجعتني إلى الزمن الجميل، لقد حملتني عجلات اللوري إلى معظم بقاع السودان عبر ثلاثين عاماً، عملت خلالها سائقاً فرحاً بمهنته عاشقاً لها، ولا تسلني عن معاناة أو مشقة فذلك مفقود لدينا، سافرت إلى “الصعيد” فجلبت منه “القنا” من (شالي، الدلنج والدبيبات) وحملت شحنات الفحم منها إلى الخرطوم. أما عروس المدائن السودانية (بورتسودان) فلم ندخر وسعاً في حمل البضائع الواردة منها إلى السودان، وأضاف: زمان كنا بنمشي (حلفا الجديدة) نجيب الخضار، حينها كان (البامبي) سيد الساحة، لكن الناس هسي بقو ما بياكلوهو،عشان كده بقينا نشحن بطيخ.
(2)
واصل “أحمد” سرد ذكرياته مع “اللوري”، فأخذ يحكي عن أدب اللواري وقال: لو أنت سايق وماشي سفرة بعيدة أو قريبة وصادف لقيت في طريقك زميل سواق متعطل بي لوريهو ما بتفوتو، تقيف معاهو لمن عربيتو تدور. وبالنسبة للأكل والشرب فذلك حديث آخر، “اللوري” دائماً ما يبدأ رحلته والسائق و(المساعد) قد أعدا عدتهما من زاد الطريق، فـ(قربة الماء) تظل مشدودة و(حلة الطعام) في الجراب جاهزة للطهي، وكنا نقوم بتجهيز اللحم والخضروات لسفراتنا الطويلة، وحينما نجوع نتوقف و(نشد الحلة)، لا حاجة بنا لمطاعم، حيثُ لم تكن منتشرة وقتها، (محل تقيل بتشد حلتك)، وماء الشرب نحمله في (القربة والسقو)، ونتوكل على الله.
عرس السفر..
وعن زيجات حدثت في الأسفار البعيدة ابتسم “محمد” وقال: في سفرنا دا يصدف السواق يتعرف على ناس رجال فيطلب الزواج منهم ودي حصلت كتير، ولكن ما تنسى أن المهنة نفسها كانت جيّدة، ومالها (مبروك) يضيف، ثم يستطرد: أذكر أنني حينما كنت (مساعد صغير) كانت ماهيتي (4) جنيهات، ولمن أترقيت لي مساعد كبير وصلت (30)، أما السواق فكان بياخد (150) جنيهاً، مع العلم انو السواق ببقى سواق بعد زمن طويل، ولمن يجي الخريف واللوري يقيف سيد اللوري ما بقطع الماهية لا من السواق ولا من الكمساري، عشان ما يفوتوا منو!
(3)
ولبعد المسافات بين أرجاء السودان، وترامي أطرافه، كان اللوري هو ملك الطريق وسيد الموقف، وشهدت الليالي تسلل أصوات المغنيين والشعر المليء بالحب واللوعة والشجن في مدح اللوري، وذكر محاسنه وطيب (خصاله)، ولعل أشهرها الأغنية التراثية الكردفانية (اللوري حلا بي دلاني في الودي)، إلى جانب (عجبوني أولاد الأهالي، عجبوني وسروا بالي، ترسوا البحر بالطواراي، ما شالونا باللواري)، إلى جانب ما يعرف بالمجادعات الشعرية التي حظي اللوري بـ( رميات) غير هينة منها، وفي ذلك نورد:
“دركسونك مخرطة وقايم على بولاد
وغير ست النفور الليلة ما في رقاد
فيرد عليه صوت آخر يناظره بالقول:
ناوين السفر من دار كول وكلمبو
هوزز رأسه فرحان بالسفر يقنبه
أب دومات غرفن عرقه اتنادن به
ضرب الفجة وأصبح ناره تأكل الجنبه
ثم يرتفع صوت ثالث يجاوب ويجاري الصوتين:
وا وحيحى وا وجع قلبي
من صيدة القنص الفترت كلبي
القاري العلم من دينه بتسلبي
والماشي الحجاز من جدة بتقلبي”
أما الشاعر “محمد ود راجح” فقال عن سائق “التيمس”:
“سائق التيمس ألفي طبعو باقي مقلب
قال لي مساعدو ناوين السفر أدرب
هاك أم الورق جيب ليك رغيف ومعلب
وباكو من السجار أوع القديم ومهرب”.
بوري (عفن)
وفي سياق آخر، يروي عن طرف ونوادر كثيرة بخصوص اللواري، لعل أشهرها تلك الرواية عن أحد السائقين الذي أصيب بمغص حاد في بطنه أثناء قيادته، وكانت امرأة عجوز تجلس بجواره، وعندما بدأت تصدر من السائق فرط (مغصه) مصحوبة بروائح كريهة، كان يضغط على (البوري) للتغطية عليها حتى لا تسمعها المرأة العجوز، وحينما استمر الضغط على (البوق) كثيراً وبشكل متواصل أمسكت العجوز بيد السواق، وقالت له “النبي عليك تاني بوريك العفن دا ما تضربو” على حد رواية السائق “عوض الكريم جاد الله “.