بعد ومسافة
جبهة وطنية جديدة في انتظار الإعلان
مصطفى أبوالعزائم
عندما كتب أستاذنا الجليل البروفيسور “محمد عمر بشير” كتابه الموسوم بـ( تاريخ الحركة الوطنية في السودان … 1900 – 1969م) في نوفمبر من العام 1978م تخاطفته الأيدي من المكتبات فنفد منها إلى أن تم إلحاق طبعة ثانية قبل نهاية العام، وقد آثار ما آثار بعد نشره وأصبح الناس مابين مؤيد أو رافض لمحتويات الكتاب خاصة فيما يتعلق برأي الكاتب الباحث – رحمه الله – في نظام حكم مايو الذي توقف عنده بحث الكاتب، وأذكر عبارة قوية حاول أن يؤكد من خلالها أن مايو لم تكن انقلاباً عسكرياً، بل كانت ثورة حقيقية وختم بذلك بحثه القيم الذي صدر بالإنجليزية ونقله عنها الأساتذة “هنري رياض” و”وليم رياض” و”الجنيد علي عمر”، وراجعه الدكتور “نور الدين ساتي”، وقد جاء النص كما يلي : ( إن ثورة مايو ليست انقلاباً عسكرياً ولا هي نقل للسلطة من المدنيين لضباط الجيش المنضوين تحت لواء الضباط الأحرار فحسب، بل هي تحوُّل جذري في السلطة السياسية والاقتصادية في السودان، ولذلك هي ثورة على الماضي وبداية لعهدٍ جديد من التاريخ السياسي والتنمية الاقتصادية في السودان ) .
عندما نعمل العقل المتجرد بعيداً عن ظلال السياسة والأيديولوجيا والقراءة بعين حزبية غير محايدة، سنجد أن البروفيسور “محمد عمر بشير” – رحمه الله – كان محقاً إلى حدٍ بعيد في عبارته تلك التي أقامت عليه الدنيا ولم تقعدها سنين عدداً، فالتغيِّرات الذي أحدثه النظام المايوي على بنيات المجتمع وإعادة ترتيب هياكله في الحكم والإدارة وإفرازها لقيادات شعبية جديدة جعل من ذلك النظام نقطة تحول كبرى غيَّرت مسارات التاريخ والفعل السياسي في بلادنا، وأدت إلى تطور أساليب المعارضة في الاتجاهين السلبي والإيجابي، تراصت الصفوف وتوحَّدت الأهداف في إسقاط النظام، لكن السبل اختلفت، إذ ارتمت بعض قيادات المعارضة في أحضان أنظمة خارجية ومخابراتها سعياً وراء هدفها الأسمى وهو إسقاط نظام الرئيس “نميري” – رحمه الله – لكن الرئيس الذكي قاتل بيد ومد الأخرى للسلام من خلال دعوته للمصالحة الوطنية التي تكللت بالنجاح في العام 1977م .
أبرز الجوانب الإيجابية في الفعل السياسي المعارض هو ذلك الجانب الذي فتح قنوات تواصل بين القوى السياسية المختلفة وتعاون ما كان له أن يتم في غير تلك الظروف، إذ برزت للوجود فكرة تكوين الجبهة الوطنية، وهي فكرة عبقرية وحدت كل القوى السياسية باستثناء أحزابٍ قليلة ووحدت القيادة ربما لأول مرة منذ الاستقلال قبل أن تضربها رياح الانشقاقات والخلافات فتعصف بالجبهة الوطنية ليأتي من يصالح وحده ويبقى في الخارج من ظن بمايو أو بزملائه الظنون .
فكرة إنشاء وقيام جبهة وطنية جديدة نبعت من عقل السياسي الشاب والقيادي البارز الأستاذ “إبراهيم آدم إبراهيم”، رئيس حزب الأمة الإصلاح والتنمية، وقد عرفته مبكراً منذ بداية تأسيس حزبهم الذي ترأسه الأستاذ “الزهاوي إبراهيم مالك” – رحمه الله – وكان الرجل صديقاً لي عرفت عن طريقه بقية معاونيه، وكان الأستاذ “إبراهيم” من الذين يلفتون النظر، حقيقة بنوعية أفكاره المتقدمة ووعيه بقضايا مجتمعه وطرحه للحلول غير التقليدية للمشاكل التقليدية، وقد فاجأ الأستاذ “إبراهيم” مدعوويه وفي مقدمتهم اللواء “عبد الرحمن الصادق المهدي” مساعد رئيس الجمهورية، والوزير “إدريس سليمان” والدكتور “أحمد بلال عثمان” والدكتور “التيجاني السيسي” ووزير الدولة “مصطفى محمود” وآخرين من الرسميين والقيادات الحزبية المختلفة، فاجأهم عقب مغرب يوم (الجمعة) الأول من أمس، في خطابه القصير في الإفطار السنوي للحزب بأم درمان بتلك الدعوة، بل ومضى إلى أبعد من ذلك بأن قال إنهم يسعون إلى توحيد أحزاب الأمة وكان بعضهم يسجل حضوراً في هذا الإفطار الرمضاني المبارك، وزاد على ذلك بأن تحدث بكل الحب والخير والتقدير عن الأمير “عبد الرحمن الصادق المهدي”، رغم الإشارة إلى أنه جاء يمثل الرئاسة ولا يمثل حزباً أو شخصاً .
اللواء “المهدي” رد التحية بأحسن منها وتحدث عن أهمية وحدة القوى السياسية، مشيداً بمؤتمر الحوار الوطني وما أفضى إليه من نتائج، وسألت صديقي الأستاذ. “إدريس القيد”، القيادي بحزب الأمة الإصلاح والتنمية أن كان حزبهم قد بدأ تحركاتٍ فعلية في اتجاه تكوين الجبهة الوطنية العريضة، فقال لي إنهم شرعوا بالفعل في الاتصال بعض القوى السياسية خاصة أحزاب الأمة بمختلف مسمياتها لتكون وحدتهم هي البداية، وأعربت له عن خشيتي من ألا تجد الفكرة الطموحة طريقها إلى التنفيذ، خاصة وأن الراحل المقيم “الشريف زين العابدين الهندي” كان قد طرح مبادرة لإنشاء جبهة عريضة تضم عدداً من الأحزاب، لكن الفكرة دُفِنتْ يوم أن ووري جثمانه الطاهر الثرى .
استهوتني الفكرة خاصة وأن ساحات العمل السياسي تكاد تغرق في الفوضى جراء وجود أكثر من مائة حزب وحركة وتنظيم، أكثرها لا يعبِّر عن الناس وإنما يعبِّر عن طموحات ورغبات شخصيات محددة تتولى أمر القيادة في تلك الأحزاب، لذلك وجدتُ نفسي داعماً للفكرة منذ لحظة إعلانها مع الوعد بالسعي مع الآخرين لتحقيقها حتى تصبح لدينا حكومة قوية ومعارضة يحسب لها الحاكمون ألف حساب.