خربشات
{ أمسك الصول بيد ابنته (تهاني) وهي تنزع زينة العرس وترتدي عباءة سوداء تعبيراً عن حزنها لفشل وصول أسرة خطيبها (حماد) بعد اندلاع القتال في أحياء مدينة كادقلي وفرض السلطات حظر التجوال .. وتساقط الدانات عشوائياً على رؤوس المواطنين .. نظر الصول بخبرة رجل الشرطة في التحري وقراءة عيون من هو أمامه من أشخاص متهمين أو ضحايا حوادث .. وشعر برعشة خفيفة بأطراف أصابعه وارتفاع درجة حرارة جسد ابنته التي بدأت كطفلة بين يديه تذكَّر أيام طفولتها .
وهو يحملها على أكتافه .. يطوف بها قشلاق الشرطة بمدينة الفاشر.. وأطرقت (تهاني) رأسها وهي لا تقوى على النظر لعيون والدها .
تهاني : يا ابنتي الزواج قسمة ونصيب وكل شيء مقدر ومكتوب من الأزل.. اندلعت يا ابنتي الحرب اليوم بين الحكومة والحكومة .. وكلا الطرفين بيدهم السلاح .. زوجك اختفى منذ الصباح .. نقول لك زوجك، لأن كل شروط صحة الزواج قد اكتملت يا ابنتي.
تهاني : لكن يا أبوي العقد ما تم.
الصول: شروط الزواج قبول ورضاء وإشهار وصداق معلوم.. لقد طلب حماد الزواج منك ووافقت على ذلك برضاك .. ثم أشهرنا ذلك لكل الناس ودفع المهر والصداق مقدماً.. ولم يتبق إلا حضور المأذون لكتابة (ورقة) مجرد ورق للمعاملات المدنية ليست لها قداسة في شيء.
تهاني : يعني يا أبوي ممكن.. وصمتت..
الصول: إذا استقرت الأوضاع الأمنية وتوقف القتال بين قوات الحكومة والجيش الشعبي يمكننا إكمال بقية الإجراءات.
تهاني : لكن حماد تلفونه مغلق منذ الصباح.
الصول : في حالة الحرب يتم وضع تدابير احترازية .. والحركة الشعبية ظلت تخطط للهجوم على كادقلي والسيطرة عليها منذ إعلان نتيجة الانتخابات .
تهاني : لكن نحن ذنبنا شنو؟.
تهاطلت الدموع من العيون .. وانصرف الصول خارج المنزل الذي خلا من الضيوف باستثناء القادمين من الأبيض والخرطوم وكوستي .. وأرياف كادقلي وقد هرع الشباب نحو موقف البصات بحثاً عن تذاكر السفر للخروج من الجحيم.
(2)
أصدر قائد القوة الثالثة في الجيش الشعبي توجيهاته إلى قادة الجماعات الصغيرة التي تسمى (البوم)، ووقف الصول العريس “حماد” بقامته المشوقة على يديه حنة عرس ينتظره حال سيطرة الجيش الشعبي على المدينة وإعلانها منطقة محررة من المؤتمر الوطني ويسأل القائد الذي أصدر التعليمات الأخيرة .. متى تنتهي مهمتنا؟.
قال القائد : نعلم أن زواجك اليوم وأنت في مهمة وطنية من أجل جبال النوبة .. التي نفديها بالأرواح ونضحي في سبيلها بكل غالٍ.
سأل “حماد” قائده المباشر لماذا يتم تكليفي بمهام في ذات الحي الذي يسكنه عشيرة زوجتي.
القائد: نفذ التوجيهات ثم أسأل كما تقتضي التقاليد العسكرية .. قاد “حماد” جماعة في جنح الليل وتسلل بين نبات (العوير) الذي يغطي مساحات واسعة من الخور الذي يفصل بين سوق المدينة وحي حجر “المك” وفريق “الكوز” وهو الحي الذي يقطنه عرب الرواوقة الذين تخشى الحركة الشعبية بأسهم في القتال .. في خطوات بطيئة وعيون مفتوحة أخذت الجماعة التي يقودها “حماد” تأخذ مواقعها بالقرب من الجسر الرابط بين سوق كادقلي وحي حجر “المك” .. كان على القوة التخفي بين غصون النبات الكثيف وعدم إطلاق النار إلا بعد صدور التوجيهات التي قضت باستخدام بنادق الصيد المعروفة بالقناصة لاصطياد السيارات التي تهرب من داخل المدينة وتفجير الجسر بعبوة ناسفة حال دخول تعزيزات عسكرية تابعة للحكومة قادمة من هبيلا .. وقد مددت هيئة قيادة العملية التي أطلق عليها “الكتمة” مخارج ومداخل يتوقع أن تتسلل منها قوات لإنقاذ “أحمد هارون” ومن بين تلك المداخل طريق بري. من هبيلا في شمال الإقليم يمر بأم حيطان ثم منطقة الفنقلو. وصولاً إلى أبو سفيفة ومدرسة كادقلي الثانوية.. وحينما أخذت الجماعة التي يقودها “حماد” مواقعها في داخل أشجار (العوير) وهو نبات سرطاني ضار بالبيئة مثل المسكيت في شمال السودان والعشر بشمال كردفان.. أخذت الأمطار تتساقط والسماء ترعد منذرة بليلة خريفية .. وتم منع الجنود من تعاطي التبغ.. حتى لا يتم اكتشاف مخابئهم والسماح فقط بالتمباك، وأثناء اختباء “حماد” بين غصون الأشجار سمع وقع أقدام تقترب منه.. أخذ قلبه يخفق خوفاً من القادم.
(3)
الشاب الذي يمسك بيد معشوقته يسير بخطى بطيئة لا ينظر لأشجار العوير التي تحيط بالدروب العتيقة ولا يأبه إلى أصوات الرصاص في الجزء الغربي من المدينة .. ويمشي مع محبوبة قلبه بخطوات بطيئة حاول الاقتراب منها أكثر لكنها دفعته برفق .. صدقيني يا “خديجة” سوف نصبح أسعد ناس في هذه الدنيا يوم زواجنا وبناء عش بالقناعة وبيت بالحب والرضا بالقليل ..الدنيا منى وأحلام .. شوف زواج “تهاني” فشل بسبب تمرد زوجها على الشرعية وعلى الدين والوطن .. قالها بصوت خافت لكنها كلمات تسللت إلى قلب “حماد” الذي يختبئ بالقرب منهما .. اختارت الطريق الخطأ ورق قلبها لواحد من (النجور) وأنت تعرفي النكد ديل ما عندهم أمان ولا أخلاق .. في زول عاقل يتزوَّج بمتمرد.
ضحكت.. فار الدم في عروق العريس الذي يختبئ بالقرب من هؤلاء فكَّر في إطلاق الرصاص على الشاب والانتقام لنفسه، لكنه تراجع عن تلك الحماقة، لأنها ستؤدي إلى اكتشافهم .. والهجوم عليهم من قبل القوات الحكومية.. زحف
“حماد” على الأرض حتى اقترب من الشاب الذي يقف في الطريق يغازل معشوقته في وادي (العوير).. وفجأة سمع وقع أقدام.. قادمة من جهة سوق المدينة مسرعة الخطى وبخبرة السنين أدرك أن صوت وقع الأقدام لجنود مدربين على السلاح .. هي جماعة من الجيش تم تكليفها لمراقبة الجسر .. وقطع الطريق لإمدادات محتمل وصولها من مناطق الدندور وعقب وأبري .. حيث يمتد الطريق من وادي أم سردبة يعبر تلك القرى التي ترقد على الضفة اليسرى من الوادي الموسمي حتى مدينة كادقلي وتوقعت قيادة العمليات للجيش أن تتسلل قوة عبر ذات الطريق .. ووقف المساعد الذي يقود القوة بالقرب من “حماد” الذي يختبئ بين غصون الشجر وأخذ يصدر التوجيهات لجنوده بالانتشار وسط الأشجار الكثيفة .. ومراقبة الجسر .. وبذلك أصبح الطرفين المتقاتلين في ذات الأرض .. كل طرف يختبئ من الآخر ويبحث عنه في ذات الوقت .. وحتى (الجمعة) القادمة.