في الميدان
الصحافة هي مهنة الرهق والقلق والترحال والتسفار في أرض الله الواسعة، ورغم أن الحديث عن الذات الفانية سلوك يعفه القارئ وينبذه، وقد وطنت نفسي على الإمساك بتلابيب نصيحة أسداها لي أستاذي ومعلمي الدكتور” قلندر” بالنأي عن الحديث الذي يمجد ذات الكاتب أو يشغل القارئ بما هو ذاتي جداً على حساب العام، لكن اليوم أتعاطى المكروه وأحكي عن رحلتي يوم (الخميس) الماضي من الخرطوم إلى محلية هبيلا بجنوب كردفان لمشاركة الأهل والعشيرة أحزانهم في فقدان ثمانية من شباب المنطقة غدرت بهم الحركة الشعبية وسفكت دمهم في حادثة لم تجد حتى الإدانة من الحكومة ولا الخارجية، ولا وزارة واحدة طلبت من مفتش حقوق الإنسان زيارة أسر الضحايا وتسجيل الواقعة كخرق كبير لوقف إطلاق النار.
عدت من جنوب كردفان مساء (الجمعة)، لكن عدت في اليوم التالي أي (السبت) بالطريق البري من أم درمان حتى الأبيض برفقة مولانا “أحمد هارون” والي شمال كردفان ووزير الطرق والجسور “مكاوي محمد عوض”، وأمضينا نهار (الأحد) تطوافاً ما بين حوض السدر في محلية بارا وسدود بنو وود البقة جنوب محلية شيكان، فيما يعرف بالمصادر الجنوبية لمياه الأبيض، وكانت العودة من الأبيض مساء (الأحد)، لنطير صباح (الاثنين) إلى دارفور برفقة نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” وكبار المسؤولين العسكريين في القيادة العامة وقوات الدعم السريع، وهي الزيارة التي امتدت حتى ساعات الصباح الأولى لفجر (الثلاثاء)، وشملت ولايتين، جنوب وشرق دارفور، وقفنا خلالها على نهاية حركة “مناوي” بذات طريقة نهاية حركة العدل والمساواة حينما غبرت في “قوز دنقو” قبل عامين، ولحق “مناوي” بمصير ابن عمه “جبريل”، وكلاهما كان هلاكهما على أيدي قوات الدعم السريع التي يقودها “حميدتي”.
ربما تقذف بنا الأحداث اليوم إلى بلدة أخرى لن نبلغها إلا بشق الأنفس، ولكن حتى ذلك الحين تبقى رحلة النائب “حسبو” في قلب دارفور واحدة من الرحلات التاريخية طوال مسيرة مهنتي في دروب الصحافة والإعلام.. ولماذا هي رحلة تاريخية؟ الإجابة في التغطية التي قد تطوف عليها أخي وأستاذي القارئ في مكان آخر من صفحات عدد اليوم من صحيفة (المجهر).
وكان حضور القيادات السياسية الوطنية إلى ساحة المعركة بعد يوم واحد من وقوعها هو حدث جدير بالتأمل، وإذا كان الشهيدان الراحلان “الزبير محمد صالح” و”إبراهيم شمس الدين” يمثلان الوقود الحيوي لسنوات معارك (صيف العبور) في أرض الجنوب حتى أفاق التمرد من سكرة ونشوة التمدد في أرض الجنوب، فإن النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” يمثل اليوم السند السياسي والدعم المركزي للقائد “محمد حمدان دقلو” الشهير بـ(حميدتي)، وإذا كانت ثنائية “الزبير” و”شمس الدين” قد قصمت ظهر التمرد الجنوبي فإن ثنائية “حسبو” و”حميدتي” شيعت حركة “مناوي” إلى مثواها الأخير، وطوت معارك جنوب وشمال دارفور هذه الصفحة مثلما انتهت معركة “قوز دنقو” من “جبريل” الذي بات لاجئاً في الخارج، وها هو “مناوي” (يشوف) فيه مصيره.