حوارات

(المجهر) تغوص في أغوار عالم التشريح مع فني التشريح "محمد يوسف بخيت"

لهذا السبب لا تسرق الأعضاء بالمشارح.. وهذه قصة الصقر الذي يهاجم العاملين بالمشرحة!!
هذه قصة الجثمان الذي أربك حامليه وتحرك عند وقوع عربتهم في “حفرة”
الأدوات المستخدمة للتشريح تقليدية ولا تتناسب وحرمة الموتى ولكن….!!
هكذا قاد كوب الماء دكتور “كوباني” إلى اكتشاف جثة متحللة داخل صهريج..!!
حوار- نجدة بشارة
المشرحة تظل ككل العوالم المجهولة التي تحكي عن الرحيل، غامضة، وبقدر ما يجتذبك الحديث عنها تتملكك الرهبة من التفاصيل.. (المجهر) التقت فني التشريح “محمد يوسف بخيت”، ونقبت معه في عوالم الموت الغامض وأسباب الوفاة المجهولة وقلبت أوراق المهنة، في محاولة لإزاحة الستار قليلاً وكشف الغموض الذي يحيط بالحياة داخل المشرحة، وتلمس الوجه الآخر من حياة العاملين داخلها، ومدى تأثير عملهم بالمشرحة على نمط حياتهم.. وكيف أنه تحول من مهنة عسكري نظام عام إلى فني مشرحة.. “محمد بخيت” يعمل الآن رئيساً لمنظمة “الوتر” لإنشاء مغاسل للموتى على نطاق المدن الثلاث والمستشفيات وداخل السجون حسب السنة النبوية.. تحدث عن أهداف المنظمة وفرص نجاح وتقبل فكرة أن تتولى المنظمة غسل وتكفين الموتى إنابة عن ذويهم.. فإلى الحوار..
{ المشرحة عوالم مجهولة تثير الرعب مثلما تستدعي التساؤل.. كيف تقضون حياتكم اليومية بين الأموات؟
_ الحياة بالمشرحة عادية كما في الوظائف الأخرى.. نأكل، نشرب ونتسامر، وأحياناً قد ننام لأن الاستراحة ملحقة بالمشرحة وغالباً ما تتملكنا الرهبة أثناء عملية التشريح.
ومهنة فني التشريح تجعلك إنساناً حقيقيّاً لأنك تشعر بنواحٍ إنسانية قد لا تجدها في مهن أخرى عديدة.
 { اختيارك لمجال التشريح.. دراسة أم رغبة؟
_ في البداية كنت أتبع للنظام العام بمستشفى الخرطوم، وفي ذات الوقت كنت مسؤولاً عن عنبر المخ والأعصاب، لذلك وبطبيعة الحال كان كل من يدخل العنبر يحمل أورنيك (8) الإجرائي، إذا حدثت وفاة يكتب على الأورنيك يحول للمشرحة، فكنت أحمل الجثث إلى المشرحة، وبالتالي توطدت علاقتي مع  العاملين فيها، فقدمت طلباً للإدارة التي كان يشغلها في ذلك الوقت دكتور “عبد الحي فضل المولى”، فكان أن طلب مني دراسة كورس تشريح باعتبارها مهنة إنسانية، فكان أن أصبحت لاحقاً فنياً بالمشرحة عام 1999 مع دكتور “عقيل سوار الذهب”.
{ ما هو دورك كفني تشريح؟
_ من مهامي، أقوم بفتح الجثة بناء على توجيهات من الطبيب الشرعي، الذي غالبا يطلب منا أخذ عينة من جزء معين ثم تتم خياطة (قفل الجثمان) والصيانة وإكرامه.
{ ماذا تقصد بالصيانة؟
_ في حال كانت الجثة مبتورة أحد الأطراف يتم إرفاقه بالجثة، أو في حال كانت متحللة تتم معاملتها بمادة الفورمالين.
{ حدثنا عن تجربتك مع أول جثة شرحتها؟
_ أذكر كان حادثاً مرورياً، وتم نقل عدد كبير من الجثث للمشرحة في ذات الوقت، وعندما حملت المشرط بيدي أحسست برهبة للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما تمالكت نفسي واستدعيت إيمانياتي وتوكلت على الله، (واتعودت عليها) وأصبحت أتعامل معها كأية مهنة أخرى، (هي محتاجة قوة قلب بس).
{ التشريح كمبدأ مرفوض عند أغلب الناس.. ما هي الضروريات التي تستوجب إجراءه؟
_ يتوقف ذلك على قرار الأدلة الجنائية حال رأت ضرورة تشريح الجثة كاشتباه في وجود جريمة، والتشريح يوضح الأسباب الحقيقية للوفاة، لكن على الأغلب أمر التشريح يصدر من النيابة العامة. 
وصراحة الناس يتخوفون من المشرحة لارتباطها في أذهانهم بسرقة الأعضاء، كذلك العامل النفسي للسودانيين فهم يرفضون فكرة التشريح.
{ وهل يمكن سرقة الأعضاء أثناء التشريح؟
_ لا يمكن حدوث ذلك، لأن الجثمان يصل المشرحة وكل الوظائف الحيوية بالجسم متوقفة تماماً.
{ هل يحدث أن يتلقى العاملون بالمشرحة من الفنيين أو الطبيب أي تهديد من المجرمين عند كتابة التقارير؟
_ أي طبيب شرعي يتوجب عليه أداء القسم قبل كتابة التقرير.
{ حالة تشريح وقفت عندها وأثارت حزنك؟
_ حدث في العام 2000، كانت الجثة لطفل توأم بعمر عشر سنوات والده جندي، كان خارج المنزل وجاءت إدارة الكهرباء لقطعها لعدم السداد وطالبوا بمستندات، فاتصلت الأسرة على الأب، وأخبرهم أنها بالدولاب، وعندما ذهب الطفل (التوأم) لإحضارها وجد مسدساً وحاول ممازحة أخيه، فخرجت طلقة استقرت بقلبه.. كان موقفاً صعباً علينا.
{ موقف طريف عالق بذاكرتك؟
 _ في إحدى الليالي الشتوية أحضر شخصان داخل بوكس امرأة متوفاة ملفوفة ببطانية ناعمة، من سكان الخرطوم وبعد إجراء اللازم ومعي أحد الفنيين يدعى “أبرمة” ذهب الرجلان لاستخراج شهادة الوفاة من المدير الطبي، وأظنهما لم يجداه والليل في منتصفه فتأخرا، فما كان من العامل إلا أن لف نفسه بالبطانية التي أُحضرت بها المتوفاة ونام على السرير (العنقريب) الذي أحضراها به، فأتى الرجلان وحملا السرير بمن فيه ظناً منهما أننا قد لفننا لهما قريبتهما، ووضعاه على ظهر البوكس وركب أحدهما مع الجثة، بينما قاد الثاني العربة وأثناء سيرهما بالشارع اهتز (العنقريب) بشدة بسبب حفرة وقعت فيها العربة فنهض “أبرمة” من تحت البطانية مذعوراً، فما كان من الشخص الراكب معه في الخلف إلا أن قفز خارج العربة، وعندما طرق الزجاج الخلفي لمن يقود العربة أوقف السائق العربة ولاذ بالفرار، وقال “أبرمة” إنه احتار كيف يعود للمشرحة.
{ تداول الناس قبل فترة أن المشرحة مسكونة بالأرواح وتقع فيها أحداث غريبة؟
_ (صمت لبرهة).. أذكر أنه في أحد الأيام طلبنا فني كهرباء لإحدى الثلاجات التي كانت معطلة بالمشرحة وعندما صعد العامل إلى أعلى وبدأ العمل لإصلاح العطل وقع من على السلم وبدأ يصرخ وعندما هرعنا إليه قال لنا إن هنالك من ضربه (كف) حتى وقع أرضاً.. ومن المفارقات أن ذلك العامل بعدها تدرب وجاء يعمل بالمشرحة معنا.
أيضاً أحياناً عندما يكون أحدنا جالساً بمفرده يقول إنه سمع صوتاً يناديه.
{ ما قصة الصقر الذي يسكن الشجرة قرب المشرحة؟
_ كان هنالك صقر موجوداً بصفة دائمة على الشجرة التي بجانب المشرحة ولا زال بالنسبة لنا من الأشياء الغامضة وأذكر أن كل فني يعمل بالمشرحة تعرض لمضايقات من هذا الصقر حتى أصبح الكل يتجنبه.. كان يهاجمنا بالضرب بأجنحته وأحياناً بمخالبه، وصادف أن سرق طاقية زميلنا “حسن شعبان” وذهب لأعلى المبنى وبدأ يصرخ عالياً ويضغط على الطاقية بمخلبه وكأنه يخاطب الفني بصرخاته. والصقر ظل موجوداً بتلك الشجرة إلى أن أزيلت المشرحة. 
{ هل ندمت يوماً على تشريح جثة معينة؟
_ لا لم أندم أبداً طالما ما نقوم به أجر لمساعدة بريء على تبرئته، وعلى كل فهو إكرام للموتى، والطب الشرعي مسؤولية أخلاقية أولاً وأخيراً.
{ قيل إنكم تستخدمون معدات تقليدية في التشريح؟
_ بالمشرحة ما زالت المعدات تقليدية وبدائية لا تليق بحرمة الموتى، لذلك نناشد الجهات المسؤولة أن تهتم بتحديث الوسائل والمعدات المستخدمة بالتشريح، لأن التشريح يمكنه أن يبرئ متهماً أو يدين مجرماً، لذلك لابد من الاهتمام به، وأوصي بزيادة عدد المشارح وتدريب الكوادر المؤهلة من الأطباء والفنيين.
{ البعض يرى الطبيب المشرِّح كالجزار؟
_ هذا ليس صحيحاً المشرِّح إنسان مرهف ويكتسب إيمانيات عميقة من خلال ارتباط عمله بالموت، وهذه مسألة اعتياد ونصبح متقبلين للموت ونكون ثابتين أكثر من الإنسان العادي. والتشريح غالباً يجري لمنطقة الإصابة فقط، لذلك قد يحدث بصورة موضعية.
{ هناك حديث عن قلة عدد الكوادر العاملة بالتشريح من فنيين وأطباء؟
_ نعم، لأنه حسب اعتقادي أن مهنة الطب العدلي أو التشريح طاردة وغير مرغوب بها.
{ لماذا؟
_ لأنه يتطلب التعامل أحياناً مع جثامين متحللة أو جثث تعرضت لحوادث خطيرة يجعل النظر إليها مؤلماً للنفس، أو التعامل مع نبش القبور.
{ هل من مسؤولياتك كفني نبش القبور؟
_ نعم.. نقوم بنبش الجثة بناء على أمر النيابة، ودورنا يقتصر على أخذ العينات حسب توصيات الطبيب الشرعي ثم على ضوء النتائج يكتب الطبيب التقرير.
{ مواقف أو أسرار النبش؟
_ أحياناً يحدث أن نجد الجثمان في نفس هيئته التي وُري بها ولا أرى أن هذا الشيء مقرون بحسن الخاتمة كما يتحدث الناس عن ذلك، وقد قرأت عن جثة وجدت أثناء الحفريات بصورة طبيعية لم تتغير لسنوات طويلة، لكن قد يكون نتيجة طبيعة التربة بالمنطقة التي دفن فيها (شدة الملوحة) الجثة أحياناً تنبش وهي شبه متحللة تماماً فنقوم بمعالجتها بمادة “الفورمالين”، ونبش الجثة عادة يكون موقفاً صعباً للأسر ولكن لا بد منه أحياناً إذا أثيرت شكوك حول الوفاة.
{ أخطاء الفنيين أو الأطباء الشرعيين قد تكون سبباً لتفكيك أسر إذا اتُهم بريء؟
_ كفنيين نعتمد على تعليمات الأطباء وهم المنوط بهم إجراء الفحص وكتابة التقارير.
} هل لاحظت أن الطبيب الشرعي قاسٍ أو بارد في تعامله العادي؟
_ على العكس، فالطبيب “علي كوباني” مثلاً كان إنسانياً ومرهفاً ومن الشخصيات النادرة، يحكى عنه أنه اكتشف جريمة قتل بواسطة حاسة الشم، كان موجوداً بمكتبه وطلب كوب ماء وعندما احضره له الساعي وقبل أن يشرب جرعة ماء قال له هذه المياه بها جثة متحللة، فبدأنا جميعاً بالبحث في الصهاريج الموجودة بالمستشفى فوجدنا بالفعل بأحدها جثة متحللة، فيما كان كل من بالمشفى يشرب من المياه، العاملون والمرضى والمرافقون.
أيضاً الدكتور “عقيل”، وهو من منطقة تشبع أهلها بالإيمانيات، أهل صوفية، فهو إنسان متدين وخلوق.
{ يقال إن كل من يعمل بالمشرحة تصبح (كهربته غير موزونة)؟
_ (رد بسرعة).. كيف ترينني؟ بالتأكيد قد تتأثر الحالة النفسية، لكن هذا يتوقف على الشخص نفسه، ويتفاوت من شخص لآخر، وأعتقد أن درجة الإيمانيات لدى العامل لها أثر كبير.
{ لا توجد نساء يعملن بمهنة الطب الشرعي؟
_ صحيح، في السابق لا يوجد، لكن الآن هنالك نساء يعملن بالمشارح.. مثلاً مشرحة الأكاديمي، ونماذج أخرى.
{ الآن تفكر في إنشاء مغاسل للموتى بولاية الخرطوم من خلال منظمة “الوتر” الخيرية.. من أين جاءت الفكرة؟
_ الفكرة نبعت من مجال عملي السابق كفني تشريح، نسبة إلى أن هنالك أمراضاً تنتقل من الأموات أثناء الغسل، ولأن عدداً كبيراً من الناس يجهلون هذه الأمراض فكرنا في إنشاء مغاسل للموتى وإكرامهم بالسنّة، على أن تضم المغسلة كل الاحتياجات الضرورية للتكفين واستخدام الكافور حسب السنّة، لأنه طارد للحشرات، وحمل الميت على ألواح خشبية بالإضافة إلى نشرات إرشادية ترفق بالكفن في حال الطلب.
أيضاً هنالك أسر تكون قادمة من الولايات ولا تجد أماكن لإكرام موتاها، لذلك سنقوم عنها بذلك. 
{ هل أحسست بوجود بعض القصور في بعض المغاسل الملحقة بالمشافي؟
_ نعم، هنالك بعض النواقص كالغسل بالكافور والغسل على ألواح خشبية حسب السنّة، أيضاً لاحظت جهل البعض في حالات تجاوز الميت ساعة أو أكثر تتصلب أطرافه ويحتاج إلى إجراء عملية دلك قبل الشروع بالغسل.
{ ألا تعتقد أن الأسر السودانية قد ترفض فكرة إيكال أمر ميتها للمغاسل لغسله وتكفينه؟
_ نحن نسعى لإنشاء مغاسل نموذجية للرجال وللنساء، بلا مقابل، وستكون متوفرة في المدن الثلاث بولاية الخرطوم، وسنسعى من خلالها لتطبيق السنّة.. أيضاً حصلنا على فتوى من هيئة علماء السودان تجوز غسل وتكفين الموتى بالمغاسل، كما أننا نسعى لإنشاء مغاسل بالسجون، مرفقة ببرامج إرشادية وتوعوية، بالإضافة لاستعدادنا لصيانة المغاسل الحالية بالسجون إذا وجدنا الموافقة من الإدارة. 
{ تحدثت عن أمراض تنتقل من الأموات للأحياء.. ما هي هذه الأمراض؟
_ استناداً إلى القاعدة الفقهية (درء المفاسد أولى من المنافع) و(لا ترموا بأنفسكم إلى التهلكة) نجد أنه ودون علمنا قد يضر الإنسان نفسه عند إكرام أخيه المسلم، وإذا عرف الناس أن هنالك أمراضاً تنتقل من الموتى إلى الأحياء لابد أنهم سيحتاطون، وهذه الأمراض منها الحميات النزفية، الايدز، الإسهالات المائية، الكوليرا، أنفلونزا الطيور وفيروس الكبد الوبائي.. هذه الأمراض تحتاج إلى إجراءات وقائية استناداً إلى نشرة من وزارة الصحة قسم الوبائيات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية