جامعة الزعيم الأزهري تنعش وجدان الشعب السوداني بـالبرنامج الإذاعي الأشهر (دكان ود البصير)
بُثت (1478) حلقة حتى اليوم
بحري ــ أمل أبو القاسم
ما أن تبدأ معزوفة أغنية العملاق وردي (يقظة شعب) التي اختارها في ذلك الوقت المخرج “إبراهيم البزعي” إيذاناً ببدء البرنامج حتى يتحلق الجميع حول (الراديو) يصيخون السمع ملياً وثمة ابتسامة تزين وجوههم إن لم تتحول إلى قهقهة تحاكي تلك التي يطلقها المتآنسون ممزوجة بسلسال من المعلومات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تنساب في شكل درامي كوميدي يحبب البرنامج للمتلقين الذين يترقبونه عصر كل (خميس)، حتى وإن انشغلوا لأي من الأسباب فالشعار الشهير المذيل باسم البرنامج يجبرك على الإنصات ومن ثم الالتفاف حول (الرادي). فمنذ ميلاد الحلقة الأولى العام 1979م وحتى العام الجاري وقد بلغ عدد الحلقات (1478)، لم يشخ البرنامج الأشهر على مر السنين (دكان ود البصير) لمعده الإعلامي المعروف الدكتور “عبد المطلب الفحل”، بل ظل فتياً معطاء يرفد الأجيال بالتاريخ السياسي القديم والوسيط والحديث، وينقده أحياناً بنهج وطريقة مغلفة لكنها لا تفوت على فطنة المتلقي.
{ رسم شخصيات الدكان
وفي يوم مشهود بمعهد الدراسات السودانية والدولية جامعة الزعيم الأزهري وعبر منتداها الدوري تناول باستفاضة وبمشاركة عدد من المهتمين والباحثين مناقشاً لـ(دكان ود البصير في الوجدان السوداني) قدم الورقة صاحب البرنامج دكتور “عبد المطلب الفحل” (جامعة المشرق)، فيما تحدث مدير البرامج الدرامية بالإذاعة السودانية عضو اللجنة العليا للتلفزيون القومي الأستاذ “السر السيد محمد الأمين” معقباً. وقال “الفحل” إن الهدف من البرنامج هو إنعاش الذاكرة وتقديم مادة تتسق مع التاريخ القديم والحديث في تسلسل عبر الدراما الهادفة حتى يكون البرنامج مشوقاً. ورسم الشخصيات التي حفظها المستمعون وهم “ود البصير” تخرج في كلية غردون قسم (العرفاء) وعمل معلماً في كل أنحاء السودان، وعرف الكثير عن عادات وتقاليد وأمثال وأشعار السودانيين، وعندما تقاعد فتح دكاناً بسيطاً يقدم خدمة لأهله.. يتمتع بخفة روح حببت فيه الناس. أيضاً دكتور “عمر” طبيب تخرج في جامعة الخرطوم وعمل في مستشفيات البندر، فتح عيادة خاصة تدر عليه دخلاً محترماً، توفي أبوه في البلد وكان عليه أن يعود لرعاية أرضه وزراعته وممتلكاته، يقدم خدماته الطبية لأهل المنطقة (مجاناً)، وقسم الطبيب منهجه في الحياة وقضاء فراغه في الدكان شأن كل أهل السودان. ولا ننسى “أستاذ السر”، فضلاً عن “الباشمهندس” الذي لا تكتمل أركان النقاش إلا بحضوره، وهو حسب الرسم مهندس زراعي تخرج في معهد شمبات الزراعي، وعمل في الغيط واستمتع بحياة المدينة (البندر) لكنه في الأصل من أبناء القرى، وبوفاة والده كان لابد أن يعود للإشراف على أرضه وزراعة أبيه وممتلكاته، يقضي وقت فراغه في أقرب دكان. ثم بقية الممثلين وهم عبارة عن مواطنين تأتي بهم الحاجة للدكان، ولا تفوتنا الأصوات النسائية من “الحاجات” اللاتي كن يقتحمن النقاش أحياناً وهن إما جلوساً يفترشن بضاعة أو أتين للشراء.
{ طرح حصيف
كل من سبق ذكرهم من الشخصيات المرسومة شكلوا لوحة في المخيلة، كلٌ يقرأها أو يصورها وفق هواه المستمد من الصورة الذهنية لهؤلاء المتآنسين أمام دكان “ود البصير” حتى أصبحت كل مجموعة درجت على المؤانسة والمناقشة تتشبه به. وقال “الفحل” إن اللغة كانت مزيجاً من العامية والفصحى بحيث تخاطب كل المستويات، كما أن البرنامج كانت تتخلله قفشات متعلقة بالسياسة، لكنه كان حصيفاً في الطرح، وقد تم تكريمه من قبل رئيس الجمهورية بتقليده نجمة الإنجاز، أيضاً وسام العلم والأدب والفنون الذهبي.
وعلقت مدير جامعة الزعيم الأزهري البروف “سهام محمد أحمد” بقولها إن ممثلي برنامج “دكان ود البصير” استوعبوا أدوارهم جيداً وأجادوها حد أنهم يقصدون الكلمة التي يطلقونها وما وراءها، وقالت إن هذا المنتدى تحديداً يحقق واحداً من أهداف الجامعة وهو التوثيق لتاريخ الأمة السودانية حتى تستفيد منه الجامعة والأجيال. وأعلنت بالاتفاق مع مدير معهد الدراسات السودانية والدولية فتح برامج الدراسات العليا الماجستير والدكتوراه لتوثيق البرنامج كمادة.
{ موقف سياسي مختلف
وقال الأستاذ “السر السيد” إن البرنامج نوع من الإعلام التنموي، وأهميته أنه مفصل ومبني بدقة في ابتكار المؤانسة والونسة، يُسمع طقساً لعلاقات غير مرئية لا تخلو من أمثال سودانية تشرك كل الناس، وأضاف إن من ملامح البرنامج المجاز والبلاغة وهو نقد سياسي واضح ويصل بطريقة مجازية. كما أن الشعر والأحاديث النبوية آليات وأدوات قوية جداً في الإقناع. واستطرد ” السر”: (كل الأشياء تتداخل في شكل مرتب وسلس، إضافة للوعي وبعض المعلومات مباشرة وأخرى غير مباشرة والتعريف بما ورد وذكره، فضلاً عن أنه يقدم نموذجاً للمنطق الشمولي المعقد، شعبياً جداً، والأدب الشعبي في السياسة والتاريخ والاقتصاد، وله موقف سياسي مختلف. وقال الأستاذ “عبد السلام محمد خير”: (من أسباب نجاح البرنامج هو اسمه، فقد اختار فكرة أمجاد الأمة الإسلامية، إلى جانب شعار البرنامج)، مبيناً أن صاحب شعار البرنامج هو “مرسي صالح سراج” كما أن قفلة البرنامج تترك المستمعين في تشوق للحلقة التالية.
{ شخصية “سلام جاء”
وكان من بين الحضور والمتناقشين أحد الذين أجروا دراسة دكتوراه في البرنامج دكتور” محمد علي عبد الجبار” وقال: (اخترت “دكان ود البصير” للرسالة لما فيه من قيم دينية وتاريخية، وحللت فيه حوالي (48) حلقة بكل جوانبها). ثم تحدث في المنتدى الأستاذ “الرشيد حميدة” أحد الشخصيات المشاركة والمؤثرة في البرنامج، الذي قال عنه “الفحل”: (اخترت شخصية جنوبي سميته “سلام جاء” ولم يتوقف عن التمثيل إلا بعد انفصال الجنوب وتم وداعه خلال الحلقة حد الدموع.. بكاءً حقيقياً).
ترأس الجلسة وأدارها باحترافية دكتور “مهدي علي حسن” جامعة الزعيم الأزهري، وكانت هناك مداخلات متفرقة من عدد من المهتمين وذوي الصلة منهم الإذاعي الألمعي الأستاذ “مصطفى جابر تكروني” والإعلامي الشاعر الدكتور “عمر خالد”، ودكتور تشادي قام ببحث دكتوراه عن البرنامج.. وغيرهم كثر.