حوارات

(المجهر) تفطر مع السكرتير العام للحزب الشيوعي وتحاوره في زيارة خاصة 3 _ 3) ):

وتستمر الجلسة الرمضانية مع السكرتير العام للحزب الشيوعي بمنزله الكائن بشرق النيل بالحاج يوسف.. وكان طوال الجلسة يردد النكات  في حضرتنا، وذكر كثيراً من  الأشياء  كالرأسمالية الطفيلية والاشتراكية والديمقراطية والإنسانية، وفي الأثناء، سألناه هل كنت تدمن دخول السينما؟ قال: السينما عالم كبير.. ودخلت كل الأفلام وأنواعها، وكنا واعين لأهمية الأبعاد التربوية في فن السينما، وكانت الأفلام قوية من ناحية الموضوع والإخراج عكس ما يحدث حالياً من عرض سطحي لمشاكل الإنسان فوق الأرض، ومن أركان الدنيا.. السينما في عطبرة جذابة وذات حضور طاغ، واعتبر أن المسرح مؤثر أكثر من أي فن آخر، وفيه المباشرة وردة الفعل الحية، والتفاعل لبناء وعي الجمهور (أعطني مسرحاً أعطيك أمة)، وكنت أمثل كثيراً من الأدوار..
{ من هم أبناء الخطيب؟!
ضيفنا أو مضيفنا.. أسماء أبنائه عادية.. “مختار” على أبيه  “مختار”، والبنتان “سحر” و”لينا” درستا الزراعة والثروة الحيوانية، أما آخر العنقود فدرست إدارة مكتبات.. والزوجة معلمة وهي ابنة خالته..
“الخطيب” درس الزراعة كما هو معلوم، وعمل في حقله، وعند فصله عن وظيفته لأكثر من مرة في عهود عسكرية مختلفة؛ كان يذهب إلى (الحواشة) في قريته ويمارس نشاطه كمزارع، كما قال.. كان نقابياً متمرساً، ودخل الحزب الشيوعي من أوائل السبعينيات إيمانا بالفكر الماركسي والمجتمع الاشتراكي.. رفض التفرقة بين الشيوعي في المدينة والشيوعي من الريف.. وقال إن كليهما يستويان في القيمة إذا عملا من أجل رفع وعي الجماهير لممارسة حقوقها والدفاع عن الكرامة، كما ينبغي لأي حر شريف.
 وعن جيل الشيوعيين من الطلاب، قال “الخطيب”: نرتب لتنظيم لقاءات مستمرة مع شريحة الشباب، ولا يوجد في الحزب الشيوعي ما يسمى في الأحزاب الأخرى بصراع الديناصورات والشباب.. فالعطاء سلم يرفع أصحاب الهمم، والشيوعي لا يهتم بالأعمار كشرط في العمل العام بل الجهود المبذولة.
{ أكبر الأخطاء.!!
 وفي السياق ذاته، قال الخطيب في الرد على (ما هي أكبر الأخطاء في الحزب الشيوعي؟!)، قال إنها ليست أخطاءً بالمعنى الذي نندم عليه، بل هي انتقادات تطرح  لتعالج، نأخذ من الفكر الجدلي آلية مستمرة لتحسن أداء الحزب وتطوره. ومضى قائلاً: إن تأييد الحزب الشيوعي لـ”نميري” في بداياته من أكبر الأخطاء التي ارتكبها التنظيم، ونوّه إلى أن  الحزب لم يسلك أسلوب الانقلابات للاستيلاء على الحكم لترسيخ مبادئه، نافياً أن يكون المبرر شريفاً مهما كانت الدعاوى والأسباب.
ويواصل في سرد الأخطاء بقوله: إن تأخير انعقاد مؤتمر الحزب الخامس لأكثر من أربعين عاماً شيء مؤسف مقارنة بتاريخ الحزب وتجربته وموقعه بين الأحزاب الشيوعية في العالم، ويعتبر الحزب الشيوعي من أكثر الأحزاب تنظيماً وفهماً للعملية الاشتراكية.
{ التهجير مقصود!!
تأخذ القوميات مكاناً بارزاً في تفكير الخطيب ولا سيما أنه ينتمي لقومية النوبة المشتتة من الشمال إلى جنوب كردفان، واستغرب أن تكون عملية التهجير والهجرة من حلفا إلى كجبار إلى حروب جبال النوبة، منظمة وممنهجة، وشرح عناد أهله الحلفاويين، وكيف أنهم رفضوا ترك أرض الأجداد، وصمدوا أمام فيضان المياه المتدفقة من السد العالي، وفي كل مرة يفقدون (كيلوات)، ويكسبون جسارة من جسارتهم المشهودة؛ حتى غطت المياه البيوت التي سكنها الآباء، ومن بعدهم الأبناء، ثم توقف التوالي وحرمت الأجيال الجديدة أن تواصل عيشها في أرض حلفا بسبب التهجير نتيجة لسياسة قصيرة الأفق..
 غطت المياه حلفا، وصارت صامتة تحت الماء، لا حول لها ولا  قوة، وبقيت المئذنة عنواناً لنخيل وجنائن حلفا بعد ألف عام من الوجود المستمر، وتخيل كل شيء يعيش في سبات.. الموت المدارس والمستشفى والنادي والسوق وخط  السكة حديد ومكاتب الحزب ومقار النقابات..
 نقطة التقدم في ربط الأجيال بالتاريخ والجغرافية، وضعتنا مرة أخرى لشرح أزمة القوميات في السودان، وتحدث “الخطيب” عن الدولة السودانية الحديثة والتطورات اللاحقة، موضحاً أن محاولة النظام الحالي لإعادة صياغة الإنسان تعد جهلاً مريعاً بتاريخ البلد، ويعتبر تعدد الأعراق والثقافات حبراً على ورق إذا لم ينته التهميش من كل مستوياته في ظل التحول الديمقراطي العميق والعادل، وسأل: هل يعقل أن تنظم الدولة (أي دولة) لتفريق الطيف السوداني الذي عاش منسجماً بعفوية حركة المجتمع من حلفا إلى نمولي؟! كما يقال قبل انشطار البلد لنصفين والخوف من انشطارات أخرى إذا لم تتوقف السياسة الخطأ في إدارة أصقاع بلد مترامٍ كالسودان.
{ يصب القهوة بمزاج شرقي
مع الجهد والانتباهة والتفكير المركز تحول لون القمح وملامح رجل في عقده السابع  لا يرتدي نظارات طبية أو  نظارات هواء، وبطلعة جيل ما بعد الاستقلال، وإنفة  تكنوقراطي يهتم بشاربه أكثر من اللازم؛ عنواناً لشخصيته، ومعياراً اجتماعياً، أي ناس وأي وعي وأي موقف، فأخذ شكله كقبطان يدنو من اليابسة وتهللت أساريره، إطار بسيط بدون لحية، وبدون عمامة، بينما الشيب يحدد القناعات والنضج ومستوى الاطمئنان لنقابي وصل إلى منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي، بعرقه بدون طائفة ولا ملك عضود، فقبله لم يكن “نقد” قيصراً، وحينما جاء بعد انتخابات سرية بحث المحرر الصحفي على قوقل البحث فلم يعثر على أي تفاصيل لقائد الشيوعيين الجديد، نفس الرجل الملامح والشبه.. “محمد المختار الخطيب” كان يصب لنا الشاي بذوق البطانة، ويصب القهوة بمزاج أهل الشرق، يربط الحكاية بالحكاية، وبتاريخ اليوم والعام بيننا وبينه ثلاثون أو أربعون عاماً، ومع ذلك كان أنيساً ودوداً كأنه يتعلم الحقائق للتو مثل غيره من الشيوعيين الإيمانيين وجملة الصورة أن الحزب الشيوعي مجسد في “الخطيب” لن يموت بحل تعسفي في الستينيات، ولن ينتهي بضربة “النميري” في السبعينيات. وقطع أذكى الرؤوس “عبد الخالق” و”الشفيع” إلى “محمد عبد  السلام”، كما ذكر “الخطيب”، ومهما قال البعض يبقى “الخطيب” وحزبه حالة سودانية متباعضة ومستمرة.
{ حلفا وبعض من المجد
نظن أن الإنسان في عامه السبعين محتاج لبعض المجد، كما أن الحنين يزيد ويتعلق المرء بمسقط رأسه بطفولة واعية، والشاهد واضح، وقد ذكر “الخطيب” (حلفا) بعد كل فقرة وفقرة، حيث قال إن القومية النوبية شقها خط 22 عرض بين صعيد مصر وشمال السودان. وحكي قصة إنسانية مؤلمة كانت الأم من جنوب الوادي، ووجدت البنت نفسها في الجانب المصري جنوب شمال خط22، وكانتا تبكيان ظلم الجغرافية تقسم قومية النوبة بين مصر والسودان.
كانت عربة (المجهر) مخلوقاً شارك النجاح في الرحلة الصحفية، واقفة في اتجاه الغرب، قبالة مدينة الخرطوم، وخرجنا بذلك الإحساس.. وسأل “جمال” عن تفاصيل زمالة أبيه مع “الخطيب”، فقال “الخطيب”: تعلمنا كذا وكذا، وكان “محمد عثمان” يفحص جهاز التسجيل لغنيمة باهظة الثمن، وتحت سماء العاشرة مساء نفس القامة التي استقبلنا بها، ولن يكن شجرة النيمة في شمبات ولا حرازة شعراء البؤس، كان رجلاً مؤمناً بزمالة الإنسان نحو أفق مفتوح باستثناء العلاقة مع  المؤتمر الوطني، وهذه مشكلة تحتاج لكتاب بقلم “الخطيب” لمراجعة سيرة ومسيرة كفاح مستمر لم يقدم نقده الذاتي الشجاع إلا في ظاهرة أفراد..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية