خربشات
غادرنا مدينة جنيف ذلك الصباح منتصف شهر سبتمبر، قبل تساقط الجليد وحلول الشتاء القارص، ثلة من أصحاب المهن المتعددة.. د.”التيجاني” من ديوان النائب العام.. والمستشار “بابكر قشي” أشهر محقق في قضايا الاختلاسات والأستاذ “الزبير عثمان أحمد” المدير الحالي للإذاعة والتلفزيون و”محمد عثمان” معتمد من دارفور، وكانت وجهتنا مدينة “ليون” الفرنسية واحدة من حسناوات مدن أوروبا القديمة.. وما يجمع “الزبير”.. و”قشي” واجتماعات مجلس حقوق الإنسان.. والسائق اللبناني الماهر للعربة الجيب كان يستمع لـ”أم كلثوم” وهي تغني (آه من زهور وجمال) (ويا حبيبي العمر ضاع).. وحينما عبرت السيارة نفق جبلي، حفره العقل والساعد الأوروبي تحت صخور جبال الألب.. تذكرت عبقرية السودانيين البائسة في تشييد طريق بورتسودان الخرطوم، وكيف أصبحت (العقبة) مقبرة لدفن ضحايا التخطيط وبؤس التنفيذ.. مع منتصف النهار كانت مجموعتنا تتجول في شوارع وأسواق مدينة “ليون” الفرنسية.. امتزاج لسحنات وأعراق وثقافات وأمشاج عديدة.. مدينة متعددة الوجوه إذا توغلت في الأحياء الشعبية خيل إليك أنها شوارع مدينة طنجة المغربية، وفجأة تغشاك سحنات مدينة داكار عاصمة السنغال القديم.. وحينما تهبط لإحدى المطاعم، فأنت في بيروت شارع الحمراء.. أو في أطراف المدينة حمص السورية التي قال “نزار قباني:” إن قبر “خالد ابن الوليد” المدفون عنها يغضب حينما يقف أحد الملوك والزعماء العرب زائراً.. وقد أنشد بيت الشعر الشهير.
وقبر “خالد” في أطراف حمص نلامسه
ويرجف القبر من زواره غضباً..
رب حيٍّ رخام القبر مسكنه
ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا..
توغلنا في تلك المدينة الساحرة.. الجميلة.. التي تمثل مثل سائر المدن الفرنسية عبق التاريخ الأوروبي والهجرة الأفريقية والعربية.. ولا تضيق الأرض الفرنسية بكل هذا السيل الجارف من المهاجرين، لأن فرنسا قوتها في تعدد مشارب وسحنات سكانها.
(2)
اتجهت لمطعم صغير وضعت الطاولات بالقرب من بعضها كأنهم يبحثون عن الدفء في أنفاس بعضهم.. نظر عامل النظافة الستيني إلى وجهي.. وأقدامي بصورة أثارت في نفسي الخوف.. والفزع ومظهر الرجل ليس غريباً.. شعر قرقدي منكوش على طريقة “مصطفى سيد أحمد” رحمة الله عليه.. جلست في انتظار النادل لطلب قهوة تركية باللبن وقطعة من الكيك.. اقترب مني الرجل بعد أن وضع المنظف بعيداً.. وسألني “عبد المنان”.. قلت: نعم.. أنت أستاذ “سعيد” أستاذ الفنون في كادقلي الثانوية.. المعلم الذي تم إبعاده من كادقلي مع أستاذ اللغة الإنجليزية وابن المنطقة أبيي أزره وزره دبوس، وكلاهما متهمان بمساندة ودعم التمرد في ثمانينات القرن الماضي.. تداعت صورة مدرستي تِلَّو وصور زملاء المدرسة.. وكيف تفرقت بهم دروب الحياة.. “عبد الله محمد خير” في جوهانسبرج.. و”مكي إبراهيم” اختفى عن الأنظار.. و”عبد الله بلال” أصبح أقرب لمولانا “أحمد هارون” من حبل الوريد.. و”أسامة محمد صالح”.. قتل شقيقه ظلماً في بدايات حكم الإنقاذ ، وذهبت دمائه قرباناً لتجميل وجه الثورة.. وأصبح “علاء الدين عمر” رئيس اتحاد الطلاب متمرداً.. و”ألماظ الياس” في أستراليا.. وأستاذ “سعيد” منظفاً لمطعم في مدينة “ليون” ولاجئاً لا مقر له.. ينام في بعض الأحيان تحت جسر بنهر الرون.. و حيناً في الطرقات.. وحينما يرضى عنه صاحب المطعم يترك له الغرفة الصغيرة بأعلى المطعم.. أخذ أستاذ “سعيد” بطريقته الساخرة يتحدث عن نفسه التي خالها في يوم ما، تشبه الكاتب البرازيلي ذائع الصيت “جورج أمادو”.. عملاق الرواية الذي غطى عليه نجوم السامبا من سحرة كرة القدم، وهم يحصدون الجوائز لذلك، حرم “جورج أمادو” من جائزة نوبل للآداب منذ روايته أرض الكرنفال حتى رواية القرنفل والقرفة ،وكل أعمال “جورج أمادو” تهتم بالتأثير الزنجي على البرازيل.. وحينما كان أستاذ “سيد” في كادقلي يعلمنا مبادئ الرسم والفنون الجميلة، وهو شخص مرح.. يمضي بعد ساعات الدراسة إلى أحياء كادقلي السفلى.. يعالج اليأس والإحباط والهموم الشخصية بتناول المشروبات البلدية من المريسة والعسلية ويدخن السيجار زهيد الثمن.. ولا يأبه لثيابه.. ولا مكانته كأستاذ بالمدرسة الثانوية تجده منغمساً في لعب (الضالة) بالقرب من دكان “عمر الخليفة”.. ولكنه مثقف يحدثك عن السحر والواقعية في أدب البرتو مورافيا.. ويسخر بشدة من روايات “إحسان عبد القدوس” و”نجيب محفوظ” ويقول إنها حكايات تجميلية لمجتمع القاهرة القديمة.. سألت أستاذ “سعيد” لماذا لا تذهب للمدارس أو أي وظيفة أخرى يذرف الحسرة.. ويقول: لقد فقدت كل شهاداتي ما بين المعتقل والتمرد.. لا أستطيع الآن أن أتذكر هل تركت شهاداتي في قرية أم دولو، حينما اندلعت المواجهة بين الجيش والجيش الشعبي.. أم هي ضمن مقتنياتي التي أخذت معي للمعتقل في ذلك اليوم.. لم يبدُ على أستاذ “سعيد” حزن على الطلاق من زوجته.. ولا أين بناته الثلاث وابنه الوحيد.. قال أنجبتهم ورب العباد كفيل بهم.. سألته عن العودة للسودان.. فقال بنبرة حزينة وهو يائس لو بعث “محمود حسيب” من قبره.. وأصبح حاكماً لكل السودان، فإني سأبقى هنا.. وأدفن بالقرب من فولتير.. وغير مهم أن يصلي على جنازتي الشيعة اللبنانيون أو المنحدرون من أصول مالية وهؤلاء تربطني بهم الطريقة التيجانية والتي أعتبرها طريقتي، رغم أنني لست ملتزماً كما ينبغي.
(3)
في تلك المناخات الاجتماعية ينظر للعربي بأنه إنسان مخادع جشع وينظر للأفريقي بأنه بقية من الرق القديم وينظر إلى الآسيويين القادمين من القارة الصفراء بأنهم مجرد باحثين عن المال وسد حاجة البطون الجائعة.. ولكن أستاذ “سعيد” يعتبر أوروبا قد غفرت لنفسها سوءات تاريخها القديم، واعتذرت عن ماضيها بحاضرها.. وغسلت ثيابها من درن العبودية بتحرير نفسها من الإرث الماضوي.. وهو يمضي الليل في قراءة الكتب القديمة.. ويحتفظ أستاذ “سعيد بذاكرةٍ بأغنيات قديمة لـ”محمد وردي” و”عثمان حسين”.. ولكن يحتفظ بذكريات بالغة السوء عن السياسيين الذين حكموا السودان منذ الاستقلال.. فهل أمثال أستاذ “سعيد” الذي أصبح مجرد منظف للصحون والأرضيات.. والشارع وترابيز المقهى اللبناني، له سجل عند جهاز السودانيين العاملين في الخارج، أم أمثال أستاذ “سعيد” وهم بالآلاف في أرض الله الواسعة، يعتبرهم جهاز المغتربين مجرد سقط متاع لا داعي إليهم؟!
وحتى نلتقي