غياب اتحاد
لم يشفع لاتحاد مزارعي السودان مواقفه الداعمة للإنقاذ بالمال والذرة والموقف السياسي والمهني الذي ساهم في تثبيت أركان الحكم الإنقاذي، ولن تسقط من ذاكرة الشعب تلك المواقف التي أعلنها رئيس اتحاد مزارعي السودان “العبيد بدر” ولا مواقف “عباس الترابي” و”كرم الله عباس الشيخ” الذين حملوا أعباء الدفاع عن الإنقاذ وسط قواعد المزارعين، ولكن الحكومة حينما شعرت بأنها ليست في حاجة لدعم المزارعين سياسياً، وأنها أخذت تدفع ثمن مطالب الاتحادات بحقوق قواعدها. فكرت وتدبرت في كيفية التخلص من هذا الحمل الثقيل ورميه بعيداً عنها، وتفتقت عبقرية وزير الزراعة الأسبق “المتعافي” لخديعة تكوين جمعيات الإنتاج الزراعي والحيواني وحل اتحادات الرعاة والمزارعين الذين كانوا مثل (الشياه) التي يضع الجزار السكين على عنقها، وحينما ذبحت الحكومة تلك الاتحادات من الوريد إلى الوريد بزعم التطوير وزيادة الإنتاج. هنأت الاتحادات المذبوحة الحكومة وعلى يدها سكين مضمخة بالدم على الذبح الرحيم، الذي جذ به عنق نقابات المزارعين.
اليوم يضرب المَحَلْ وقلة الأمطار وشحها الموسم الماضي قطاعات عريضة من المشاريع المطرية، ويجلس المزارع حائراً يقلِّب كفيه والزرع أمامه قصباً تذروه الرياح وأعواد من السمسم الذي لم يثمر إلا علفاً قليل الغذاء للحيوان، وديون البنك الزراعي تجعل بعض المزارعين يفكِّرون في الهروب مع الواقع، ولكن إلى أين الهروب؟ والسجن مصير من يبقى منتظراً المجهول، وشركات التأمين الزراعي قد قبضت من المزارعين الملايين من الجنيهات، ولكنها لن تستطيع تعويض الخسائر الفادحة للمزارعين، خاصة في منطقة هبيلا بجنوب كردفان التي تغذي كل ولايات دارفور وكردفان بالعيش ونصف سكان دولة الجنوب يعيشون على إنتاج تلك المنطقة الغنية قبل أن يضربها المحل والجفاف هذا العام، وحينما كان هناك اتحاد للمزارعين ينافح عن قواعده ويذود عنهم بكل ما يملك، ولكن اليوم بعد تقسيم المزارعين إلى زراع طماطم وفجل وبصل وذرة وبطيخ، فإن وحدة المزارعين قد أصبحت شيء من الماضي، ولا يجدون من ينافح عنهم ويذود في النائبات عن المزارع المسكين في سنوات مثل هذا العام.
اليوم يبحث المزارعين في هبيلا عن مدير البنك الزراعي لتأجيل سداد المديونيات وهم يطرقون أبواب البرلمان، وحتى صغار الناشطين في الحزب الوطني الحاكم بحثاً عن حل لمشكلة كانت في السابق من مهام واختصاصات اتحادات المزارعين، ولكن اليوم يبحث المزارع عمن يقف بالقرب منه خاصة في منطقة يقاوم المزارع التمرد ويزرع تحت التهديد والوعيد، ولما كانت المنطقتين تقع على عاتق النائب الأول للرئيس الفريق “بكري حسن صالح” فإن مسؤولية خليفة الرئيس كبيرة في إنصاف هؤلاء المظلومين قبل أن تضمهم جدران السجون ويبقون حتى سداد ديونهم.
إن مشكلة مزارعي هبيلا أكبر من نقص الإنتاج والمحل وقلة الأمطار، وليست في تهجم عرب البقارة على المزارعين والاعتداء حتى الآن على ثمانية عشر من المزارعين، وتراوحت الاعتداءات مابين القتل والأذى الجسيم واستباحة المشاريع الزراعية قبل حلول موعد الطليق، ولكن المأساة الحقيقية في الخديعة التي تعرَّض لها المزارعين من قبل شركات التأمين التي خدعت المواطنين الذين يجهلون إجراءات التأمين، حيث وقع المزارع على استمارة طلب تأمين ودفعوا ملايين الجنيهات، وحينما علمت شركات التأمين بفشل الموسم الزراعي أعادت في شهر أكتوبر الماضي، المبالغ التي دفعها بعضهم، وذلك يمثل تحايلاً على القانون واستهبالاً على المزارع الذي بات بين مطارق شتى.