بعد ومسافة
من أوراق محكوم عليه بالإعدام!
مصطفى أبو العزائم
بدايات عملي الصحفي، وتحديداً في عامي المهني الثاني تم تكليفي في صحيفة (الأيام) الغراء عام 1981م، بتغطية دائرة النقل والمواصلات، ومن بينها بلا شك سكك حديد السودان، وكان وزير النقل والمواصلات آنذاك على ما أذكر اللواء “مصطفى عثمان حسن” (مصطفى جيش) – رحمه الله – جاء من بعده اللواء “خالد حسن عباس” – رحمه الله – بينما كان يتولى أمر إدارة الإعلام والعلاقات العامة أستاذنا الراحل الشاعر الكبير “كمال بشير”، وكان هناك صداع دائم في الرأس الحكومي الكبير اسمه النقابة العامة لعمال السكة الحديد التي ترأسها شاب في الثلاثين من عمره، جريء لا يتورع في منازلة النظام، ولا يخشى تهديده، اسمه “عباس الخضر”، وقد عرفته منذ ذلك الوقت، وعشت معه تفاصيل كثيرة حول النقابة الأقوى تأثيراً في تاريخ العمل السياسي والنقابي في البلاد، والتي كان اسمها الرسمي هو (النقابة العامة لعمال السكة الحديد والنقل النهري والمركبات)، قبل فصل النقل النهري عن السكة الحديد.
مدير عام السكة الحديد آنذاك كان المهندس “صالح الطيب” رحمه الله – وكان مهنياً مخلصاً عفيفاً شفيفاً بشهادة كل الذين عرفوه وعملوا وتعاملوا معه، وقد سعى لتطوير هذا المرفق الحيوي المهم، ودعا لأول مؤتمر تداولي لتطوير السكة الحديد بداية الثمانينيات تلك، وظل على الدوام يعترف بدور عمال السكة الحديد ونقابتهم في تطويرها.
في تلك السنوات المحتشدة تعرفت برئيس نقابة السكة الحديد “عباس الخضر الحسين” وحاورته ونشرت آراءه المخالفة للرأي الرسمي حيث شهد العام 1981م، اضطرابات مشهورة في السكة الحديد، وتم القبض على رئيس النقابة الشاب – وقتها – “عباس الخضر” بل وصدر الحكم بإعدامه بعد قيادته لإضراب السكة الحديد في ذلك العام بعد سلسلة من الاعتقالات، بل سبق أن تم حظره (فئوياً) و(سياسياً) بقرار جمهوري صدر باسم الرئيس “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – لتتم ملاحقته ويقدم للقضاء العسكري الذي حكم عليه بالإعدام.
(لعبة السياسة) اقتضت أن تتم مراجعة الحكم بالإعدام، بل اقتضت أيضاً أن يرتفع صوت النقابي الشاب الثائر داخل قبة البرلمان (مجلس الشعب الرابع) مصعداً من قواعد العمال.
انتبه “عباس الخضر الحسين” إلى أهمية التعليم والترقي في مراحله بعد حفظ القرآن بخلوة الشيخ “الفكي العوض” بعطبرة، ودراسته للفقه والسيرة على عدد من المشايخ والأئمة بعطبرة والخرطوم، إذ التحق بمعهد تأهيل الأئمة والدعاة بالخرطوم (الجامع الكبير)، ثم التحق بمعهد تأهيل الأئمة في الأزهر الشريف بالشقيقة مصر، ثم التحق بمعهد الدراسات الإسلامية بأم درمان، وحصل على دبلوم الدراسات الإسلامية وحصل على بكالوريوس العلوم الإدارية من جامعة القرآن الكريم، في العام 1998م، ثم ماجستير العلوم الإدارية من جامعة أم درمان الإسلامية عام 2005م، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة الإدارة العامة من جامعة الزعيم الأزهري عام 2016م، وهو شيخ تجاوز الخامسة والستين.
للدكتور “عباس الخضر” نشاط دعوي وسياسي وإعلامي واسع، وكان من الكُتاب المشاركين في هذه الصحيفة (المجهر السياسي)، وهو يعتز بذلك، وقد أصدر كتابه الموسوم بـ(قصص نقابي) قبل أيام متضمناً بعض تلك المقالات، إضافة لتوفيقه لفترة من أخصب فترات العمل النقابي، ابتعد فيها عن هوى النفس وأنصف خصومه السياسيين، بل أشاد بمواقفهم وفي مقدمتهم الرئيس “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – وغيره من قيادات العهد المايوي.
بالأمس وعلى غير موعد التقيت بالشيخ الجليل الوقور الدكتور”عباس الخضر الحسين” داخل المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، فقال لي إنه يبحث عني ليهديني كتابه الجيد (قصص نقابي) وهو يعلم شغفي وولعي بالتاريخ والتوثيق والمعلومات، وكتب لي إهداء يشبهه تماماً من حيث اللغة والأدب والمفردة.. وأخذت منذ لحظة تسلمي النسخة الخاصة بي، في تقليب صفحات هذا (التاريخ) الذي ضمته دفتا كتاب الشيخ الدكتور “عباس الخضر” وسعدت بثلاث مقدمات للكتاب، الأولى بقلم البروفيسور “إبراهيم أحمد غندور” وزير الخارجية، ورئيس اتحاد نقابات عمال السودان السابق، والثانية بقلم الأستاذ “يوسف علي عبد الكريم” رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال السودان الحالي، والثالثة بقلم الدكتور “محمد أحمد محمد فقيري” نائب مدير عام السكة الحديد الأسبق، وأستاذ السلوك التنظيمي بالجامعات السودانية.
ضحك الشيخ الدكتور “عباس الخضر” ومن كان معنا أمس، داخل مكتب الأستاذ “قرشي الأرباب” بمجلس الصحافة والمطبوعات، ومن بينهم زميلنا الصحفي المعروف الأستاذ “أحمد مدثر” عندما قلت للشيخ “عباس الخضر” إنني سأكتب مقدمة (متأخرة) لكتابه هذا ليتها تفي بما يموج به الخاطر وتمور به النفس.