خربشات الجمعة
{ لم تطق “تهاني” تعبير عمتها “ست الكل” وهي تسألها: صحيح يا بتي عاوزة تتزوجي متمرد؟! لم تشأ الإجابة بنعم أو لا، لكنها تعلمت الصبر على المواقف الصعبة.. وقد خبرت كيف ترد طلبات المترددين عليها وهي تصنع الشاي والقهوة.. واللقيمات.. يجلس أحدهم ويباهي بثروته.. وبطولته وحسبه ونسبه من أجل استمالة قلبها.. و”تهاني” تصد هؤلاء أما بابتسامة خادعة تعبيراً عن رفض ناعم أو بالصمت.. ردت على عمتها “ست الكل” بأن زوجها المرتقب رقيب في القوات المشتركة.. كان في السابق جندياً في القوات النظامية أغرته الغابة بضجيجها وشعاراتها للالتحاق بالمتمردين في الجنوب.. وقد أصبح قادته اليوم حكاماً على الجميع.. واخترت “حماد” لقناعتي بأنه الرجل الذي أجد عنده التقدير.. وليبس شيئاً آخر.
لقد تزوجت بعض الفتيات من أبناء عمومتهن، لكن بعضهم الآن في السجن وهي إشارة لزوج ابنة عمتها “خديجة” القصيرة التي قبض على زوجها في أم درمان يمارس تجارة “البنقو”.. وشعرت “ست الكل” بالخجل وجريمة وعار زوج ابنتها يلاحقها في كل مكان حتى “بت الصول” التي تريد الزواج من متمرد تطعنها في كبدها.
اختارت “تهاني” مع ابنة عمتها “سارة” شراء “الريحة”.. (فليردامور سوار باريس.. ليفدور والروائح الجافة.. الصندل.. الضفرة والمحلب) من السوق العربي.. إلا أن “سارة” الخبيرة بالأسواق الخرطومية رفضت شراء الثياب والفساتين إلا من سوق ليبيا.. والحافلة الهايس تعبر جسر أم درمان توقف زحف السيارات فجأة.. وأخذ الركاب يسخطون وعرق شمس (أبريل) يبلل الأجساد.. ويضيق حال الركاب فيسخطون.. وأخيراً دوت أصوات سيارات النجدة إيذاناً بمرور مسؤول كبير كان داخل قبة البرلمان.. سألت “تهاني” “سارة”: في شنو؟ ردت عليها بصوت خافت: البرلمان.. حيث سلطة الشعب.. سألت: الشعب منو.. نحن ولّا أنتم ومن نحن ومن أنتم يا “تهاني”؟؟ نحن أهل الهامش.. من الآن تأثرت بلغة المتمردين و(الجور) قالتها من دون الاكتراث لمن حولها من الرجال والنساء.. تململت امرأة من جنوب السودان وقالت (كلام عرب دا يا هو يسوي مشاكل في بلد).
(2)
في سوق ليبيا تم شراء الثياب السويسرية الفاخرة.. والفساتين.. تمايزت أذواق “تهاني” وبنت عمتها، فبينما “سارة” كانت تميل لشراء الألوان الرمادية والبنفسجية وتقول لتاجر الملابس الذي من ملامح وجهه ينتمي جغرافياً إلى الغرب الأقصى: (أدينا اللون الهادي داك)، تميل “تهاني” للألوان الحمراء والصفراء الفاقع لونها.. وكأن الإحساس باللون له علاقة بالانتماء الجغرافي.. وضعت كل الملابس في حقيبة كبيرة.. وهمست “تهاني” في أذن “سارة” بصوت خافت.. نظر إليها التاجر.. وبخبرة السنوات ومعرفته باحتياجات “شنطة العروس” أخفى رأسه تحت الطاولة وأخرج كيساً كبيراً به ملابس داخلية نسائية ودون جدال طلبت “سارة” ستة أطقم بألوان متعددة ومقاس (دبل أكس).. دفعت المبلغ دون أن تطلب تخفيضات مثل بقية الاحتياجات.. ضحكت “تهاني” بطريقة ساخرة ندفع ونسكت!! طلبت “سارة” أن تبقى “الشنطة” عند تاجر الملابس لشراء الكريمات من الطبالي الصغيرة المتناثرة.. لكن فجأة هرول الرجال مسرعين، وحملت النساء ما خف وزنه من أدوات صناعة الشاي وأخذ الناس يهرولون لإخفاء المعروضات خوفاً من قدوم “كشة” المحلية، التي تقبض على الباعة وتقدمهم لمحاكمات سريعة.. لكن “الكشة” لم تظهر لأن ما حدث عبارة عن مزحة من (حواء الطرشاء) التي تضحك على الباعة المتجولين.. وهم يهرولون خوفاً من رجال البلدية وهي تقول: (تخافوا من الحكومة؟!).
(3)
وضعت “تهاني” حقيبة زوجها التي تفيض منها رائحة العطور في البعض السياحي الذي غادر موقف أم درمان الشعبي عند الساعات الأولى من صباح.. وأخذت تتأمل في أحياء الخرطوم التي لا تزال هادئة.. والشوارع خالية من المركبات إلا بكاسي اللبن.. وقليل من العسكر.. والعمال يقفون في محطات “أبو حمامة” و”الكلاكلة”، وعند وصول البص جبل أولياء.. توقف السائق.. صعد اثنان من الشباب تختفي نصف ملامح وجهيهما وراء نظارتين سوداوين قاتمتين ينظران للركاب نظرة قاضٍ لمجرم في قفص الاتهام.. يحدقان في وجوه النساء والشباب.. كأنهما يبحثان عن مجرم يعتقد أنه اتخذ ذلك البص مطية للهروب من العدالة.. الناس في صمت وخوف.. وحتى السائق.. لا يستطيع التحدث لهذين الرجلين، إنهما من الحكومة الزرقاء.. ترجلا من البص دون أن يطلبا من الركاب النزول، لكن أحدهما تسلم كشفاً بأسماء الركاب.. دقق في كل الأسماء وأرقام الهواتف والعناوين.. وأمر الرجلان العسكريان البص بالتحرك، لكن بعد أمتار معدودة تم إيقاف البص مرة أخرى لوجود حاجز أمني آخر لقوات نظامية لها مهام أخرى.. فالمسافرون من عاصمة البلاد إلى الأطراف لا بد لهم من عبور عدد من الحواجز الأمنية وتفتيش المسافرين القادمين من الولايات والتدقيق في وجوههم.. ابتسم الرجل الخمسيني بثيابه الفاخرة وروائحه التي تفوح من جسده الناعم ولون بشرته الذي تبدل للون الإثيوبيين، وقال بصوت مرتفع أنا مقيم في أيرلندا منذ عشر سنوات، ظللت أطوف بلدان الاتحاد الأوروبي سنوياً لم يسبق أن شاهدت حواجز تفتيش بين دولة وأخرى.. فالحدود بين أسبانيا والبرتغال مبنى كنيسة صغير.. والحدود بين فرنسا وسويسرا عبارة عن خور صغير. نصف مطار جنيف يقع داخل الأراضي الفرنسية ونصف سكان بولندا من أصول ألمانية.. نحن داخل وطننا الذي به نباهي ونفتخر ما بين مدينة وأخرى يتعرض الناس للتفتيش والفحص الأمني كأننا إرهابيون حتى نثبت لحكومتنا براءتنا من القتل.. ضحك الذين نظروا إليه وقال “كافي الدود” رجل الستين من العمر: يا ولدي إنت شفت حاجة الغريق قدام.
أطلق سراح البص ومعه أطلق الكمساري صوت المطرب الذي صب الحنين في قلوب المسافرين.. وهو يغني للشاعر “مدني النخلي”:
علمي عيوني السفر
ما البسافر في عيونك
سكته بتبقى السلامة
ينسى أحزانه ويعرف الدنيا
جنبك ابتسامة
ظللي الناس بي حنانك
أبقي ليهم ضل غمامة
وعلمي عيوني السفر
{ وحتى نلتقي (الجمعة) القادمة.