خربشات (الجمعة)
“تهاني” فتاة لم تبلغ الخامسة والعشرين ربيعاً.. بعد اقترابها من دخول الجامعة.. تراجعت عن ذلك تحت وطأت حاجة أسرتها، تساعدها.. فكَّرت في الدراسة الخاصة.. لكن الرسوم الباهظة صدتها عن تلك الرغبة.. “تهاني” أقرب أبناء الصول “جمعة” إلى قلبه.. ورغم تقاعده منذ سنوات من الخدمة في الشرطة، لكنه احتفظ برتبة الصول التي تجري على لسان سكان الحي والسوق.. وأينما ذهب يتوكأ على عصاه.. ويرتدي برنيطة.. والدة “تهاني” أقعدها مرض (الروماتيزم) وهي تتذكر أيام صباها في جنوب السودان.. ولكنها تذرف الدموع في كل صباح مرتين.. حينما تتذكر مريدي ويامبيو.. ودفن نضارة شبابها.. وحسن بهائها في الديار التي أضحت بعيدة عن العين قريبة إلى القلب وتدمع عيناها وصورة فلذة كبدها الوحيد لا تزال معلقة في صالون المنزل، وقد ابتلعت الصحراء الليبية ابنها الوحيد في رحلة الهروب عن الوطن مثله وآلاف السودانيين ماتوا ولم تقام لهم جنازة وداع ولا يعرف ذووهم أين قبروا وهم يبحثون عن الخلاص الفردي بعد أن استعصى عليهم الخلاص الجماعي في وطن سكنته الحروب ولم تخرج بعد.. لم تجد “تهاني” بأحلامها الكبيرة وأمنياتها المؤجلة غير ظل شجرة (النيم) التي تتوسط سوق كادقلي ويتخذها بعض التجار وموظفي الحكومة العاطلين عن كل موهبة برلماناً شعبياً.. تخرج من منزل والدها (الصول) في كل صباح ومع نسايم الفجر بحثاً عن الرزق وتعود في منتصف الليل تحمل خبزاً وسكراً وشاياً، وفي بعض الأحيان نصف كيلو من لحمة الماعز الجبلي وعشرين جنيهاً.. وهي لا تكف عن ترديد أغنيات (الدرملي) وبعض ما حفظته من المطرب “وردي” (لو بأيدي كنت طوعت الليالي وكنت ذللت المحال).
(2)
“تهاني” فرضت عليها قوانين النظام العام ارتداء الجوارب رغم أن الشرطة التي تتولى تفتيش جوارب النساء تغض الطرف عن قليل من تجاوزات “تهاني” لذلك القانون، مثلاً تترك أحياناً لخصلات شعرها تداعب النسيم ولا ترتدي الملابس السوداء.. التزاماً بموجهات السلطة، لأن رجال البوليس يعلمون أنها ابنة الصول.. وقديماً قيل (الكاكي للكاكي رحمة) وإذا كانت قيود الحكومة المحلية تبدأ بمظهر بائعات الشاي فإن بقية بنود القانون المحلي تنص على فرض رسوم على بائعات الشاي لصالح المحلية وتنمية وتطوير المدينة، ويطوف على مقهى “تهاني” أطياف من البشر.. شباب وشيوخ عابرو سبيل وسائقو مركبات.. يغازلونها.. تصد عن هذا وتبتسم مرغمة للآخر.. وهي تمسح أحزانها بالاتكاء على أبيات شعر أهملت نصفها وحفظت النصف الآخر.
جرب وأغفر للبخونك
تلقى أعداءك قلال..
لقمة العيش النظيفة
تحلى بالكسب الحلال..
لا تستقر “تهاني” طوال العام تحت ظل شجرة النيم تتنقل أحياناً من حائط وزارة الصحة إلى ملعب الرياضة تبحث عن الرزق.. تواجه الفقر بالعزيمة.. ولا تغيب ابتسامتها الساحرة عن وجه دائري تجعل بعض الهائمين الحالمين يظنون إن ابتسامة “تهاني” تأشيرة دخول لقلبها المفعم بالأحزان.. وقد أخذت المدينة في الازدهار العمراني والتجاري بعد أن أبرمت الحكومة وفرقاؤها من حاملي السلاح اتفاقاً أنهى سنوات الحرب الطويلة.. وغشيت المدينة وجوه غير مألوفة من قبل بعد أن كان سكان المدينة يعرفون بعضهم بعضا.. حتى أصبحت المدينة
“لا يتعرف الزول البجيك”
“ولا البيجك بيعرفك…!”
(3)
“حماد جبريل” شاب دون الثلاثين بقليل عاد من رحلة طويلة في أعماق وطنه، اختار أو اختارت له الأقدار أن يحترف القتال، كان جندياً في القوات المسلحة.. قاتل في صف الجيش الوطني ثم انقلب عليه وقاتل ضده.. خاض معركة ساندروا وخور إنجليز في جنوب السودان، وهو يرتدي شارة سلاح المظلات.. ثم قاتل في خور إنجليز وخور العفن الذي أطلق عليه هذا الاسم لكثرة جثث أبناء الوطن التي يجرفها الخور الموسمي.. وللمرة الثانية كان يقاتل مع الجيش الشعبي.. “حماد” المسلم الذي لا يصلي، ولكنه يصوم شهر رمضان خوفاً من نعته بالمفطر في رمضان وجلب العار لأسرته.. فرضت عليه قيادة الجيش الشعبي يوماً ما، أن يقود فصيلة لحماية كنيسة يسرى بالقرب من مدينة واو، وفي مخيلة “حماد” أن الجيش الوطني لا يمثله، لأن قادة التمرد يزعمون ذلك. ينتمي “حماد” لقبيلة العطورو. من كبريات بطون النوبة بشرق كادقلي لم ينل من التعليم إلا أربع سنوات بمدرسة هيبان الأولية، لتهجر الأسرة المنطقة للخرطوم، حيث ظل يعمل في البناء.. حتى تعرَّف على شخص قاده للانخراط في الجيش.. وذات الشخص حرَّضه على الالتحاق بالجيش الشعبي.
ومع توقيع اتفاق الهدنة والسلام.. عاد “حماد” لمسقط رأسه في هيبان.. وكان يمَّني النفس بإسقاط البندقية نهائياً عن عاتقه.. والزواج من ابنة عمه “صابون”، ولكنه بعد العودة لقريته (الليرا) وجد فتاة حلمه قد غادرت المنطقة وتزوجت من “الفاضل” سائق اللوري، وأصبحت أماً لأطفال في مدينة القطينة جنوب الخرطوم، فأخذ يتردد على “تهاني” ابنة الصول أينما قذفت بها الأقدار ورمت بها الظروف. في ذلك المساء شنت الشرطة المعنية بحفظ النظام وعمال البلدية هجمة ضارية على بائعات الشاي في سوق المدينة وقذف أحد العمال بكل ما تملكه “تهاني” في جوف السيارة الهرمة وأمرها بالركوب مع أخريات.. “حماد” ساءه رؤية “تهاني” محمولة على عربة النظام العام.. أسرع لحمل سلاحه وأشهره في وجه عمال البلدية وعسكر الشرطة حتى زغردت إحداهن لشجاعة الجندي الذي رفض سلوك الشرطة.. التي أذعنت لتهديدات منسوب القوات المشتركة اتقاء فتنة تهدد أمن مدينة تمشي على حافة الهاوية دون الانزلاق والسقوط فيها.
منذ تلك اللحظة فكرت “تهاني” في الارتباط بذلك الشاب الشجاع الذي كان مستعداً للتضحية بحياته من أجل كرامة نساء لا تجمعه بهن أواصر قربى.. ووجدت “تهاني” فتى أحلامها الذي تبحث عنه، وقد عرف النوبة العطورو والمورو بالشجاعة وقوة الشكيمة والصبر والوفاء، وإن روابط الدم والمساكنة والمنافعة والمصالح التي تجمع عشيرتها الحوازمة الرواوقة (أولاد رحمة) بالنوبة المورو ستجعل زواجها من “حماد” حدثاً يعمق أواصر القرى ويعيد إرثاً كاد أن يندثر بسبب الحرب، فهل تم الزواج أم تفرق الشمل؟. إلى الحلقة القادمة.