حوارات

(المجهر) تقلّب أوراق العمر مع البروفيسور "عبد الله أحمد عبد الله" رئيس مفوضية الانتخابات 4

{ ظللت حاكماً للإقليم الشمالي حتى 1985م.. أين كنت عندما قامت الانتفاضة؟
– قبل قيام الانتفاضة وقتها كنت أرتب للسفر إلى باكستان مع الرئيس “نميري”، وباكستان كانت تشتهر بالخبرة في مجال الصناعات الصغيرة، وبحكم عضويتي في مجلس إدارة إحدى المنظمات الدولية، وكان مقرها لاهور، سبق أن زرت باكستان وشاركت في اجتماعات المنظمة، وعلى هامش الاجتماع التقيت الرئيس “عبد الحق” واقترحت عليه زيارة السودان، ومن ثم تقديم الدعوة للرئيس “نميري” لزيارة باكستان، وبالفعل قدم الدعوة للرئيس “نميري” وطلب مني مرافقته في تلك الزيارة، ولكن للأسف قبل أن نسافر قامت الانتفاضة.
{ وعندما قامت الانتفاضة.. هل كنت بالخرطوم أم بالإقليم الشمالي؟
– أدركتني الانتفاضة وقتها وأنا بالخرطوم، وكنت أرتب لسفر ابنتي التي كانت تستعد للذهاب إلى زوجها بفرنسا.
{ هل تذكر الأسباب التي أدت لقيام الانتفاضة؟
الانتفاضة قامت لعدة أسباب لا أذكرها، أو لا استحضرها لطول الزمن، ولكن أذكر أن الرئيس “نميري” وقتها كان يحضّر للذهاب إلى أمريكا، والوضع كان سيئاً بسبب الاضطرابات التي كانت تشهدها البلاد، وعلى رغم ذلك خاطب “نميري” مجلس الشعب، وفي اليوم الثاني كان يُفترض أن يخاطب مجلس الوزراء ومن ثم يتوجه إلى أمريكا، وأذكر في اجتماع مجلس الشعب تعرضت أنا و”دفع الله الحاج يوسف” في حديثنا إلى وضع البلاد العام وما تشهده من اضطرابات، وقلنا ليس من الحكمة أن يسافر الرئيس إلى أمريكا والموقف الداخلي مضطرب، لكن الرئيس “نميري” لم يعجبه ما قلته أنا و”دفع الله”، وقال: من يعتقد أن مايو سوف تسقط بسبب هذه الاضطرابات!! وكان يعنينا نحن الاثنين.. وقتها كنت في (شمبات) متجهاً إلى (بحري)، وفي الطريق، في الصينية أمام مسجد بحري رآني ضابط عرفني وطلب مني العودة إلى (شمبات)، وفي طريق عودتي وقبل أن أصل إلى المنزل سمعت بيان المشير “سوار الذهب” وهو يعلن انحياز القوات المسلحة إلى جانب الشعب.
{ وماذا فعلت بعد سماعك البيان؟
– جهزت “شنطتي” في انتظار اعتقالي.
{ ومتى اعتُقلت؟
– ظللت في انتظار من يعتقلني، ولكن لأسبوع لم يأتني أحد، فبدأت أذهب إلى الكلية، وفي اليوم السابع جاء شباب يركبون (بوكس) وقفوا في أول الشارع شافتهم بنتي قالت لي: يا أبوي الجماعة جوك.
{ وماذا فعلت؟
– قلت لابنتي: قولي لأمك حضري الشنطة، وخرجت عليهم وبالفعل وجدتهم شابين بدآ في تقديم اعتذارهما وأحسست أنهما في أشد الحرج، وقالا لي: يا بروف نحن آسفين، لا بد أن تمشي معانا، قلت ليهم: أصلاً أنا منتظركم، كدى أشربوا الموية وبعدها نمشي، وفعلاً ركبت معهما البوكس وذهبنا إلى (كوبر). في (كوبر) أُجري معي تحقيق بسيط ومن ثم أُدخلت إلى قسم المعاملة الخاصة.
{ مَن كان مِن المسؤولين بهذا القسم؟
– في القسم وجدت “بابكر علي التوم”، و”الرشيد الطاهر”، و”محمد الحسن أحمد الحاج”، و”خالد حسن عباس”، و”زين العابدين محمد أحمد عبد القادر”، فبدأت أسلم عليهم وقبل أن أكمل السلام على بقية المعتقلين من قيادات مايو جاء ضابط وبدأ ينده عليّ: “عبد الله أحمد عبد الله”. قلت ليه: خير أوعى يكون مودني ربك. قال لي: خير تعال. قلت ليه: أشيل شنطتي؟ قال لي: شيل شنطتك.
{ وماذا قال لك الضابط؟
– قال لي: جاء أمر بإطلاق سراحك. قلت ليه: منو القبضني ومنو الأطلق سراحي؟ قال لي: دا ما شغلنا، نحن جانا أمر من القيادة العامة أن نطلق سراحك.. سألني: ساكن وين؟ قلت ليه: في شمبات. قال لي: دي عربتي الخاصة ودا سواقي يوصلك.
{ هل تذكر هذا الضابط؟
– كنت أذكره، لكن نسيت.
{ ثم ماذا؟
– بعد خروجي من (كوبر) وأنا بالطريق شاهدت شقيقتي ماشه برجليها، وقفت ليها، قالت لي: “عبد الله” إنت جايي من وين؟ قلت ليها: من السجن. قالت لي: وإنت متين قبضوك؟ قلت ليها: الصباح دا.
{ ولكن تم اعتقالك ثانية؟
– نعم، بعد أسبوع نفس الشباب جوني ومشيت معاهم (كوبر).
{ مَن وجدت مِن قيادات مايو؟
– “بابكر علي التوم”، وأنا وهو سكنا في غرفة واحدة.
{ كم قضيت في السجن؟
– قضيت شهرين تقريباً، وكنا حوالي ثمانية وعشرين شخصاً لا أحد يسألنا، والأسر كانت تتبارى في تقديم الأكل لنا، كل يوم الأكل على أسرة إلى أن خرجنا.
{ وبعد السجن مشيت وين؟
– خرجت من (شمبات) واستأجرت منزلاً بـ(الصافية)، وعملت مستشاراً لبعض المنظمات الدولية كالبنك الدولي والفاو، وقدمت استشارات داخلية وخارجية. ظللت أربع سنوات وأنا أعمل حراً إلى أن جاءت الإنقاذ في 1989م.
{ وكيف عملت مع الإنقاذ؟
– الإنقاذ في بدايتها، لا أحد كان يعرف هويتها، لكن بعد أن فكرت في اختيار دبلوماسيين جاءني “مهدي إبراهيم”، وقال لي: أنا رسول من “البشير” وقيادة الثورة، وهم يرون أنه بإمكانك خدمة الوطن في موقع سفير السودان بأمريكا والقيادة تأمل أن تقبل العرض.
{ وماذا قلت لـ”مهدي إبراهيم”؟
– شكرته أولاً وطلبت منه إعطائي مهلة للتفكير، وقتها كان قريبي “عبد الرحمن عبد الله” موجوداً فاستشرته، و”عبد الرحمن” طلب مني أن أقبل وقال لي: هذا عمل اختارك له رئيس الجمهورية خدمة للوطن. وفعلاً في اليوم التالي ذهبت وقابلت الرئيس “عمر البشير” وقلت له: أنا وافقت وسأعمل كسفير للسودان بأمريكا لمدة أربع سنوات فقط، وبعدها سأترك العمل بوزارة الخارجية، لأن عملي يتعلق بمهمة معينة. تمت الموافقة وعُينت سفيراً للسودان بأمريكا بمستوى وزير اتحادي.
في بداية التسعينيات تسلمت موقعي بأمريكا والظروف كانت صعبة على السودان، ولكني قدمت فيها عملاً كبيراً جداً. كنت أتعامل مع “عبد الرحيم حمدي” وزير المالية آنذاك لما لديّ من صلات مع البنك الدولي وصندوق النقد، كما كنت مهتماً بالمعاهد ومراكز الدراسات، لأن السياسة الخارجية لا تتم في الوزارة، بل تتم في تلك المعاهد، وكانت لديّ خلفية حول تلك المعاهد فقد كنت أقدم فيها محاضرات، وقويت صلتي بالكونغرس الأمريكي.
{ والجانب الدبلوماسي؟
– الجانب الدبلوماسي تركته لبعض الدبلوماسيين، والجانب الإداري والمالي أسندته لـ”عبد الله بشير” وكان من أميز الدبلوماسيين.
{ كم الفترة التي قضيتها سفيراً بأمريكا؟
– كانت ثلاث سنوات ونصف السنة.
{ وبعدها؟
– قبل أن تنتهي فترة الأربع سنوات التي اتفقت عليها مع الرئيس البشير بدأت ترشيحات لسفير السودان بالمملكة العربية السعودية، لكن كل الذين رُشحوا رفضتهم السعودية.
{ والسبب؟
– يبدو أنها شمت فيهم رائحة الإخوانية.
{ وماذا حدث بعد ذلك؟
– الأخ السفير “علي سحلول” أدخل في رأس الرئيس أن الشخص الوحيد الذي يمكن أن تقبل به السعودية سفيراً للسودان هو بروفيسور “عبد الله أحمد عبد الله”، وبالإمكان نقله من واشنطن إلى السعودية.
{ وهل قبلت؟
– وصلني خطاب من السفير “عمر بريدو” وكان يشغل منصب وكيل وزارة الخارجية بما معناه أنك يمكن أن تصبح سفيراً بالسعودية.
{ وماذا قلت له؟
– رديت عليه بأنني قد اشترطت على الرئيس أن أعمل لمدة أربع سنوات فقط وما تمت وما عندي مانع ما تتم، وقلت ليه: المهم أنا ما ماشي أي بلد آخر، وسوف أخرج من وزارة الخارجية، وأنا ما زلت عند رأيي.. رد عليّ “عمر” وقال لي: الجماعة ديل ممكن يمشوا في الموضوع، لذلك قمت بكتابة خطاب للرئيس :البشير: وقلت له: لقد بلغني كذا والآن أنا مستعد أغادر واشنطن، وأنا ما زلت عندي رأيي وهذه ليست مهنتي، وسوف أعاود إلى منزلي وليس لأي بلد آخر، ومثلي يُعين لمهمة معينة وهذا رأيي في كل السفراء الذين يتم تعيينهم سياسياً، فأرجو ألا يتم ترشيحي للسعودية أو لأي بلد آخر، وأنا سعيد بالعودة للخرطوم.
{ وماذا كان رد الرئيس “البشير”؟
– أرسل لي الرئيس “عمر البشير” خطاباً ما زلت محتفظاً به يقول فيه: لقد تفهمت كل ما جاء في خطابك، ونحن سعداء بالفترة التي أمضيتها معنا. تعود إلى السودان وتختار أي موقع تطلبه.
{ وماذا قلت له؟
– شكرته وقلت له: موقعي الجامعة. وفعلاً غادرت واشنطن وعدت إلى السودان وعملت رئيس مجلس إدارة جامعة وادي النيل، وجامعة أعالي النيل، ورئيس هيئة البحوث الزراعية، وبالتعليم العالي، ولجنة القطاع الزراعي.
{ هل تعتقد أن الصدفة لعبت دوراً في حياتك؟
– بالتأكيد، فحياتي كلها كانت تدبيراً من رب العالمين ولم أخطط لأي عمل تم في حياتي، الوزارة أو منصب الوالي.
{ ومفوضية الانتخابات؟
– حتى الانتخابات لم أسع لها، فقبل ثلاث سنوات تم اختياري نائباً لرئيس المفوضية القومية للانتخابات التي كان يترأسها مولانا “أبيل ألير”. عملنا أنا و”أبيل” في تناغم وتفاهم كامل ولم تحدث بيننا أي خلافات طوال تلك الفترة، بل أعدنا فيها علاقات قديمة، إلى أن جاء الانفصال واختار مولانا “أبيل ألير” أن يذهب إلى الجنوب، ودعاني النائب الأول الأستاذ “علي عثمان محمد طه” وأخطرني بأنهم اختاروني رئيساً لمفوضية الانتخابات، وتم تعيين الدكتور “مختار الأصم” نائباً لي.
{ هل كانت الانتخابات السابقة نزيهة؟
– لقد أدرنا الانتخابات في أرقى صور النزاهة، وقد تمت بشفافية تامة. القصور فيها كان من جانب السياسيين، ونظرة الأحزاب للمفوضية كانت بدون دليل، فالأحزاب لم تعمل طوال الخمس سنوات لخوض الانتخابات، لذلك عندما جرت الانتخابات كانت مترددة في خوضها عكس المؤتمر الوطني الذي عمل بجدية ونشاط من أجل كسبها، وقد استخدم المؤتمر الوطني كل كادره وكل أمواله من أجلها.
{ ألم يجر فيها تزوير؟
– أبداً، المفوضية كانت تعمل بكل درجات النزاهة والشفافية ولم يحدث أي تدخل من أية جهة في عملها، وكنا نتوخى القانون في إدارتها.
{ والجنوب.. ألم تتعرض الممارسة للتزوير؟
– الجنوب كان بعيداً عن إدارتنا، كانت له لجنة منفصلة، لكن لا أستطيع أن أقول إن إدارة الانتخابات بالجنوب كانت بنفس النزاهة التي أردناها بها بالشمال. كنا نسمع بالتدخلات وحاولنا إصلاحها وذهب مولانا “أبيل” إلى الجنوب أكثر من مرة.
{ والفساد؟
– المفوضية لم يكن فيها فساد كما يقال، وكل الحديث كان حول التدريب، وعن شخص واحد كان مستهدفاً من بعض الأشخاص.
{ وما هو سبب الاستهداف؟
– هذا الشخص كان له مركز للتدريب ودخل ضمن أثنى عشر مركزاً للتدريب، وأخيراً نصحناه بالابتعاد عن عملية التدريب طالما هو موجود بالمفوضية، فوافق وترك إدارته لآخرين.
{ إذا أعدناك للماضي.. هل كانت لك هوايات؟
– بطبعي كنت رياضياً، مارست كرة القدم وتنس الطاولة وكنت بارعاً فيها، والسباحة التي حصرت كل (كاساتها) بوادي سيدنا.
{ وفي مجال الفن والغناء؟
– أنا من محبي غناء الفنان “الكابلي”، وغناء الطنبور “النعام آدم”، و”ود اليمني”.
{ مدن راسخة بذاكرتك؟
– (سان فرانسيسكو) و(أمستردام).
{ وداخلياً؟
– (عطبرة) التي أحببتها في صغري.
{ تلعب كوتشينة؟
– كنت حريفاً في (الوست).
{ والسينما؟
– كنت من عشاقها أيام الجامعة، وكنت حريصاً على ارتياد سينما النيل الأزرق.
{ والأفلام التي تشاهدها؟
– أفلام الكاوبوي والأفلام الوثائقية.
{ والمسلسلات التلفزيونية؟
– لا أذكر أنني تابعت مسلسلاً من الأول للآخر.
{ والتلفزيون؟
– أحرص على مشاهدة الأخبار والبرامج الحوارية والمقابلات مع المفكرين.
{ هل تدخل المطبخ؟
– أحياناً، إما لعمل شاي في غياب الأسرة أو سلق بيض، وأحرص دائماً على إدخال صينية الأكل إذا فرغت منها إلى المطبخ بمفردي.
{ وبتغسل ملابسك؟
– عندما كنت في المرحلة الوسطى بعطبرة، لكن فترة الجامعة كانت ملابسنا تُغسل وتُكوى من قبل الجامعة.
{ ورياضة المشي؟
– كنت أمارسها في وقت مضى.
{ الرباطاب مشهورون بسرعة البديهة؟
– نعم، لأنهم لا يحتملون الأسئلة السخيفة أو العبيطة، فكل سؤال لا يكون في محله تجد إجابته بسخرية.
{ هل من أمثلة لتلك الأسئلة؟
– في جماعة أمهم ماتت وكان عمرها قد تجاوز التسعين سنة، فسأل شخص أولادها عن سبب وفاتها فردوا عليه: ماتت متعثرة في الوضوع.. وواحدة أيضاً كانت محمولة على عنقريب وهي أيضاً كبيرة في السن فسأل أحدهم: وين مودينها؟ قالوا ليه: عندها عيش ماشة تطحنه.. وواحدة تجاوز عمرها السبعين عاماً وماتت أمها عن عمر تجاوز التسعين، عند عودة الرجال من المقابر كانت تبكي بحرقة وسألت أحدهم: أمي وديتوها وين؟ رد عليها: وديناها حدائق أبريل عشان تتفسح.. وواحد تزوج من رباطاب لكنه (شاكّي) إلى أن استقبل مولدته الأولى، وفي أحد الأيام طلب منها إعطاءه الشَرّاب فجدعته، قال ليها: أقول ليك أديني الشرّاب تجدعيه لي؟ ردت عليه: مالو عاوز يتكسر؟ قال: في هذه اللحظة تأكد لي أنني متزوج من رباطاب.
{ وهل لك أعمال بخلاف المفوضية؟
– مازلت أمارس مهنة التدريس، ولديّ يوم مخصص للتدريس متطوعاً ولا أتقاضى فيه أجراً، وأشارك في العديد من اللجان، رئيس للجنة العليا لتطوير جامعة الخرطوم، وفي لجنة الترقيات بالجامعة.
{ هل تذكر أول مرة صمت فيها رمضان؟
–    صمت وأنا في المرحلة الأولية السنة الثالثة أو الرابعة.
{ هل صمت خارج السودان؟
– صمت أربع سنوات وأنا بأمريكا، وحتى عندما جلست لامتحان الدكتوراه كنت صائماً.
{ وكيف هو يومك العادي؟
– بعد صلاة الصبح أقلب بعض الأوراق، أذهب إلى المفوضية عند العاشرة.. أعود عند الثالثة.. أغفو بعد الغداء لنصف ساعة تقريباً، وأقرأ جزءاً من القرآن يومياً بعد صلاة العصر.
{ هل حفظت القرآن؟
– حاولت في السجن.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية