عابر سبيل
والأزهري يتعلى.. وما يتدلى!
ابراهيم دقش
من اشراقات الراحل “محمود أبو العزائم” في الإذاعة إنه استضاف في حلقة عن الاستقلال قبل ثلاثة عقود من الزمان ويزيد، ثلاثة من رموز السودان هم:
العميد “يوسف بدري” و”حسن علي عبد الله” أول وكيل لوزارة الداخلية بعد الاستقلال، والنائب في أول برلمان سوداني “حسن محمد زكي” وكنت رابعهم.. وقد فاجأتني قبل أيام إذاعة ذاكرة الأمة (أف. أم. 98) بتقديم تلك الحلقة التي سأل فيها الثلاثة عن مشاركتي – وأنا خارج دائرة جيلهم – فقال لهم “أبو العزائم” إنه شاهد على عصركم.
وأضف إليها اليوم أني أيضاً شاهد على رحيلهم (وسَّدهم الله جميعاً الباردة)
في تلك الحلقة (سلقني) “محمود” بأسئلة شداد عن الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” أول مرة رأيته فيها، كان ذلك، ونحن طلاب في المدرسة الوسطى حين كان رئيساً للوزراء في حكومة الحكم الذاتي، وكانت عربة (كومر) يقف فيها مرتدياً بدلته (الدمور) ويحيي الواقفين لاستقباله، وكنت ضمنهم مع زملائي الطلاب نرتدي الجلاليب البيضاء والعمامات.
ماذا بقى في الذاكرة من تلك المناسبة ؟ هو بيت شعر من قصيدة ألقاها ذلك الحشد شاعر معلم اسمه “عبد الله حسن” يقول:
يا شعب إنك والنهوض توائم
ولآنت في ثغر الزمان حداء)
وأول مرة تصافح فيها الأزهري؟ في 1966م، توليت وظيفة ضابط الصحافة والنشر بوزارة التربية والتعليم – وكان وزيرها المرحوم “حسن عوض الله” وكنت نسبياً صغير سن مقارنة بفطاحل رئاسة الوزارة، وقد جئت إليها من مكتب النشر التابع للوزارة.. وذات يوم طلب مني الوزير أن أصحبه للقاء الرئيس “الأزهري” في القصر، فتمانعت غير أنه قال لي: هو يرغب أن يتعرف عليك.. وصافحته في ذلك اليوم، سألني كيف أكتب في الصحف وأنا موظف دولة، فذكرته بثورة أكتوبر 1964م، التي (كسرت) ذلك القانون، ثم سألني من أين أعرف الوزير، فقلت له بأن أول مرة أراه فيها يوم تسلمت وظيفتي في وزارته، لكني سمعت عنه قليلاً.
وعندما سألني ماذا سمعت، قلت له أغنية شعبية تتردد”
“أزهري” يتعلى ويتعلى ما يتدلى. والثاني “حسن عوض الله” وضحك، ثم سألني إن كنت مرتاحاً حيث نقلت.. ففاجأته بأني متضرر، لأن الوزير وضعني في منصب أكبر مني ولم يمنحني بدل إنابة، كما لم يمنحني بدل مظهر وحرمني من دخل إضافي كنت أتقاضاه من تعاوني – غير متفرغ – مع الصحف.. وهل كان ذاك آخر عهدك به؟ كلا فقد كان حضوراً في عقد زواجي في أبريل 1968م، فقد جاء تسبقه المواتر إلى (زقاقنا) بأم درمان، وللعلاقة الأسرية التي ربطتني به، فقد ترددت على داره مدعواً أو لحضور مناسبة خاصة.
وهل صحيح كان (قابضاً) ويحب التورتة ؟.
بالعكس كان رجلاً شهماً وبشوشاً وكريماً يقف على خدمة ضيوفه بنفسه.. ولم ألاحظ وجود (تورتة) في المناسبات التي حضرتها.. وهل من مناسبة تتذكر وقائعها ؟.
نعم.. فقد اتصل بي ذات يوم في أواخر 1968م، فيما أظن – وطلب مني موافاته بداره، ودخلت وسلمت عليه وانتظرت.. فلم يفتح فمه معي بكلمة.. وانتظرت.. فدخل المرحوم “إبراهيم جبريل” فسأله إن كان يعرفني، فنفى.. ووجه ذات السؤال لي فاتفقت في الإجابة.
ثم دخل “موسى مبارك” و”مأمون سنادة” و”محمد جبارة العوض” فسألهم إن كانوا يعرفونني، فأجابوا إيجاباً (ده صاحبنا)، ثم سألني إن كنت أعرفهم فقلت له، هم يسار حزبكم فانتفض قائلاً: ليس في حزبنا يمين أو يسار، فكل ما في الأمر عندنا نصنفك عاقل ونصنفك مجنون.. وهؤلاء من الصنف الأخير.
وجاء المرحوم “كرار أحمد كرار” نائب الأمين العام لمجلس الوزراء ووجه له نفس السؤال، كما وجهه لي، فاكتشف أننا من ذات المنطقة.. وكان يقول لـ”كرار” أذيك يا أب أحمد.. وأذاي “أحمد”.. وأذاي أم أحمد”.
بعدها شكرني على الحضور وخرجت وأنا أضرب أخماساً في أسداس. فخطر لي التصرف السريع، وتوجهت لصحيفة (الزمان) دون الإشارة لاسمي أو ذكر اسم “الأزهري” وخرجت الصحيفة في اليوم التالي بمانشيت عن تغيير وزاري مرتقب، ليس فيه “إبراهيم جبريل”، ومن نجومه “المبارك” و”سنادة العوض”، كما أن “كرار أحمد كرار” سيتولى الأمانة العامة لمجلس الوزراء.
فاتصل عليَّ بالهاتف الزعيم “الأزهري” ضاحكاً مبروك يا “إبراهيم” لقد نجحت في الامتحان.