(سلوكة) و(جراية) الفقراء تتفوق على (دكاسي) الأغنياء
في مواسم زراعة وحصاد محصول الذرة
المجهر – خالد الفاضل
لزراعة الذرة في السودان خاصة بأراضي الجزيرة ومنطقة البطانة، وفي (القضارف) وما حولها أجواء وطقوس خاصة، وللحصاد هناك قصص وحكايات، وتفاصيل تحكي عن ارتباط إنسان تلك المناطق بالأرض واعتماده عليها في توفير كل متطلبات حياته، كما تمثل له العيش في تلك الأجواء متعة حياة لا تضاهيها متعة .
خلال جولة استطلاعية عن أجواء الحصاد في تلك البلاد التقينا صديقنا شاعر البطانة “يوسف البروف” طاف بنا بين دهاليز حصاد الذرة والعمال و(الدقاقات) و(الدكاسي)، وكلها مفردات خاصة بالحصاد، وقص علينا عن حياة العمال وتجمعاتهم وعلاقاتهم بأصحاب المشاريع، وأيضاً معاناتهم . فإلى التفاصيل:
بليلة والذبائح للمطر
ترتبط زراعة الذرة (العيش) بالقضارف بهطول الأمطار التي قد يتقدم هطولها أو يتأخر، وقد تبدأ مبكراً في شهر مايو أو يونيو، أو تتأخر إلى شهري يوليو وأغسطس، ويعتبر تأخر الأمطار نذير شؤم يجعل الأهالي، كما يقول “يوسف”: يلجأون إلى ذبح الخراف كرامة في بيوتهم، مثل: الأضحية، وتقسَّم لحومها على الفقراء وبعض الأشخاص يتقربون بالبليلة وهي أيضاً تعتبر كرامة. وترتكز الزراعة المطرية غالباً على الذرة بأنواعها ” الفيتريتة، أرفع قدمك، قشيش وكوركولو”، ويطلق على العيش في بدايات نموه عدة مسميات مثل: “سواسيو وفراريج، جداد صقار ولتيب وحملة وشراية ولبنة وفريك “، والفريك هو المرحلة الأخيرة في نمو الذرة، وبعدها يبدأ الحصاد.
ملتقى (التاية) الجامع
موسوم حصاد الذرة كما هو معروف يجذب العمال من كافة أنحاء البلاد من سنار وسنجة والغرب وحتى من بلاد الحبشة الذين أصبحوا يمثلون الأغلبية بين عمال حصاد الذرة. يتجمع هؤلاء العمال في أماكن عملهم في شكل مجموعات بمختلف قومياتهم تحت شجرة ضخمة يطلق عليها اسم (التاية)، ويعتمدون في وجباتهم على العدس واللبن والعصيدة، بالإضافة إلى الطيور مثل: (القمري) (الفِرّة) (أبعلوك) وغيرها من أنواع الطيور الموسمية التي توجد بصورة كثيفة أيام الحصاد ويصطادها العمال بآلة يدوية الصنع يطلق عليها اسم “القلَّابة”. أما الأرانب والقطط الثعالب وأبشوك (أبو القنفذ) يتم اصطيادها بالكجَّامة.
الجدعة والتقى “الجُرُنْ”
أما الأراضي الزارعية بالقضارف ما حولها تسمى المشاريع والمشاريع تقسم إلى جدوع مفردها جدعة والمشروع الواحد يضم 200 جدعة، ويتم الحصاد بالاتفاق مع العمال، إما عن طريق (القوال) أو “المقاولة” وهو أن يسلم صاحب المشروع كل أرضه أو جزء منها للعامل الذي يقوم بقطع الذرة وجمعها في مكان واحد، ويسمى هذا المكان ” التقى” أما المكان الذي يجمع فيه كل الذرة المحصودة فيسمى “الجُرُنْ”، لتأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة في الحصاد عن طريق “الدقاقة”.. الطريقة الثانية لحصاد الذرة بنظام “الأردبية”، ومعناها أن يكون الاتفاق بين صاحب المشروع والعامل بنظام “الأردب” بمعنى أن يقطع العامل العيش ويجمعه ويأخذ على الأردب سعر معيَّن من المال.
(سلوكة ) الفقراء تتفوق
على (دكاسي) الأغنياء
تختلف طريقة زراعة الذرة في القضارف بحسب مساحة الأرض، فالأشخاص الفقراء الذين لا يمتلكون أراضي زراعية واسعة يزرعون بواسطة “السلُوكة أو الجراية” أما أصحاب المساحات الواسعة من الأثرياء أو شبه الأثرياء فيزرعون بواسطة (الدكاسي) جمع “دكسي” وهنا يعلق يوسف بقوله: ” لكن سبحان الله الفقراء بالسلوكة والجراية ينتجوا ويحصدوا أكثر من الأثرياء لأن الفقراء دائماً بهتموا بي زراعتهم وبنضفوها من الحشائش”.
حلاوة الصحبة ونار المخاطر
حياة العمال في مناطق الحصاد تجمع ما بين رهق ونار العمل وحلاوة الصحبة والعمل الجماعي، حيث تشكل تجمعاتهم مساحات من التعارف والصداقة والعشرة الطيبة، ولكنها كذلك لا تخلو من مخاطر العمال في فترتهم العملية بالرغم من تعبهم الدائم، فعندما يأتون لنقل العيش في بعض الأحيان تتخبأ العقارب الشرسة تحت كيمان العيش المقطوع، وأيضاً تتخبأ الثعابين في الأشجار. ويحكي صديقنا “يوسف” عن طريقة خاصة ابتكرها العمال لعلاج لدغات العقارب، ويقول: “إذا كان تأثيرها عادي يضعون له ورقة، والله أعلم بما فيها، ويسقونه الشاي المر ويربط مكان اللدغة بقطعة قماش. أما إذا تدهورت حالة الملدوغ ولم تفده هذه الأشياء يتم إسعافه فوراً إلى أقرب مركز صحي” لتلقي الإسعافات اللازمة.