خارج النص
خربشات
(1)
يجهل السودانيون واقع بلادهم كجهلهم بتاريخها القديم والحديث، وهناك كثير من التصورات الخاطئة عن الناس والشخوص والأمكنة والمجتمعات الريفية والحضرية والبدوية.. ومن التصورات الخاطئة الاعتقاد الشائع بأن القبيلة كوحدة اجتماعية ثقافية هي كتلة عرقية واحدة تنحدر من جد واحد، لكن القبيلة في السودان عبارة عن تكوين اجتماعي وثقافي تتلاقح فيه مكونات عديدة، ومن أكبر التكوينات القبلية في السودان بعد انفصال الجنوب حيث كانت قبيلة “الدينكا” تشكل أكبر قبيلة في السودان، أصبح “الرزيقات” الآن أكبر القبائل ثم “الكواهلة” الذين ينتشرون في ولايات القضارف سنار الجزيرة والنيل الأبيض وشمال كردفان وجنوبها، بينما “الرزيقات” في كل ولايات دارفور، خاصة شرقها حيث “الرزيقات البقارة” الأكثر تمازجاً وتصاهراً مع قبائل أخرى، وداخل حوش القبيلة الكبير يعيش في أرض “الرزيقات” من قديم الزمان “المعاليا، خزام، بني حسين والبيقو” الممتدة جذورهم إلى بحر الغزال، وتصاهر “الرزيقات” مع “دينكا ملوال” و”الفرتيت” و”الجور” وعاشوا بالمودة والحياة الإنسانية التي لا تعرف التمييز، وبقدر ما “الرزيقات” أشداء في الحرب فإنهم لينو المعشر يحسنون إكرام الغريب ولا يميزون أنفسهم عن الذي يساكنهم.
(2)
يجوب “الرزيقات” في حلهم وترحالهم أرضاً واسعة وفضاء ممتد من الحوض الرملي لدارفور شرق نيالا في فصل الخريف الذي يبدأ في يوليو وينتهي في المناطق شبه الصحراوية في أكتوبر، وفي فترة النشوق يثري عرب “الرزيقات” مناطق الشمال بخيرات النعم من السمن واللبن واللحم، وتنتعش أسواق المناطق التي تطوف عبرها قطعان الماشية، ونشأت علاقات عبر السنين بين المزارعين والرعاة، وقبل أن تصبح العلاقة بينهما تجافياً وبغضاء وحروباً، كان الرزيقي البقاري يترك طفله الصغير عند صديقه من “المعاليا” أو “البرقد” أو “الفور” حتى يلتحق بالتعليم، ويذهب الرزيقي في رحلة الصيف مطمئناً إلى الجنوب وفلذات كبده تحت كنف أسرة ترعاه وتحسن تربيته، وبعض من هؤلاء يأتمن “الرزيقات” على أبقاره لتذهب للبحر في فصل الصيف، والبحر المعني هو بحر العرب، حيث دمر البادية وهناك يمضي “الرزيقات” في رحلة الصيف ثمانية أشهر مع “الدينكا” و”الفرتيت” و”الجور” تعلموا لغتهم وتصاهروا بالمعروف والفضل بينهم ووشائج القربى، وتمدد الدين الإسلامي واللغة العربية في شمال بحر الغزال بلا فتح بالسيف ولا قوة باطشة، بل بالحسنى والأخلاق والعرب “الرزيقات”، أينما حطت جحافل باديتهم هطل الخير وهم على صهوات الجياد، يستعيدون ماضي الخيل في دولة الإسلام الأولى وأخلاق فرسان العرب حينما كان العرب سادة الدنيا وملح أرضها وقبس نورها وبهاء وجودها.. جمع “الرزيقات” لحمة الوطن بين الجنوب والشمال قبل أن تهبط نوازل السياسة ويسود البلد من لا يقدرون هذا التاريخ.. ورحم الله الدكتور “محمد الواثق” حين قال:
ما كنا في السودان نعاني ضيق معيشة
لو ساد في البلاد أهل البصائر
ومات “الواثق” قبل قرارات “بدر الدين” الأخيرة.
(3)
تعدّ جنوب دارفور القديمة دميرة الخريف، وبحر العرب دميرة الصيف.. وفي سنوات خصوبة السودان وأمنه ووحدته كانت قطعان “الرزيقات” تصل حتى نهر اللول والجور، ونسجوا علاقات طيبة مع أهل الجنوب.. وتعدّ دائرة بحر العرب الجغرافية أشهر دائرة في غرب السودان، وتعاقب على النيابة وتمثيل المنطقة نجوم سياسية شهيرة منهم النائب “أحمد عقيل” ابن أول نقيب للمحامين في السودان، وفي تاريخ أبناء “الرزيقات” تولى اثنان منهم نقابات كبيرة “عقيل أحمد عقيل” والآن “الصادق إبراهيم الرزيقي” كنقيب للصحافيين، ومن نواب دائرة بحر العرب “عبد الحميد موسى مادبو” في ستينيات القرن الماضي، وفي سنوات مايو أناب عنها “عيسى محمود مادبو”، وفي عهد الإنقاذ مثلها “الصافي عبد الحميد” والمهندس إيدام أبو بكر” و”محمد بناني” وأخيراً “حسبو محمد عبد الرحمن” لدورتين.. ولأول مرة تمنح المنطقة ثقتها لأحد القيادات لينوب عنها لدورتين، وإنسان المنطقة البدوي الرعوي قلق بطبيعة تكوينه ويميل إلى التغيير دوماً، إلا أن ما قدمه “حسبو” لدائرة بحر العرب جعله شخصاً متفقاً عليه، وعمد “الرزيقات” يزيد عددهم عن ثمانين عمدة، لكن تحت قيادة ناظر واحد لا يشاركه أحد في إدارة القبيلة، إلا أن الأبالة في شمال وغرب ووسط دارفور ونسبة لتباعد المسافات وخصوصية مشكلاتهم لهم قيادات محلية مستقلة عن مركز القبيلة وثقلها، وناظرها في الضعين، وحتى المسميات تختلف هنا عمدة وهناك شيخ، هنا ناظر وهناك شيخ وأمير، لكن تبقى وشائج الدم الواحد هي الرابط الذي يجمع الأبالة المنتشرين حتى تشاد و”البقارة” المتصلين بدولة جنوب السودان.
(4)
عاد أمس نائب رئيس الجمهورية من شرق دارفور بعد ثلاثة أيام من الطواف اتصل فيه النهار بالليل، وتمددت الساعات بين افتتاح مرفق جديد ووضع حجر أساس لمبنى حكومي جديد، وشرق دارفور ليست داراً لـ”الرزيقات” وحدهم بل هي دار لكل أهل السودان، وإذا كان “الرزيقات” أكثرية في محليات الضعين والفردوس وعسلاية وبحر العرب، فإن “المعاليا” يشكلون أغلبية في محليات عديلة وأبو كارنكا والبرقد في شعيرية، وحتى الضعين العاصمة هي مزيج من أهل السودان ينشط في أسواقها الزغاوة القادمون من شمال دارفور، ويشكلون مركز ثقل تجاري ورأسمالية لهم وزنهم النوعي، والفور الذين يقطن أغلبهم شمال السكة الحديد حيث معسكرات النازحين التي تقاسم سكان المدينة لقمة عصيدة الدخن، وأكثر من (70) ألف لاجئ من دولة جنوب السودان لهم سلاطينهم وقد ذرفوا الدمع السخي يوم رحيل الناظر “سعيد موسى مادبو” هذا العام.. رب احفظ تلك الديار ببركة الجمعة.