تقارير

عودة عائدات نقل (النفط) .. طوقُ نجاة للميزانيَّة أم طعم أمريكي؟!

{ لحظات من الترقب الحذر والقلق المبهم كانت تخيم على وفدي التفاوض بأديس، بعد أن بدأ المفاوضون في إعداد حقائبهم إيذاناً بالرحيل بخُفي حنين، وإيداع المصير الوطني على طاولة مجلس الأمن.. إلا أن بوادر الانفراج بدأت تلوح في الآفاق عندما استدعى الوسيط الأفريقي ثامبو أمبيكي رئيسي الوفدين “إدريس عبد القادر” عن السودان و”باقان أموم” عن جنوب السودان لاجتماع امتد لأربع ساعات ممتدة، توصلوا خلالها إلى اتفاق مرحلي بين البلدين على أحد ملفات النزاع (النفط).. واتفق الطرفان على مبلغ (25.8) دولار للبرميل كرسوم عبور وإيجار لنفط الجنوب الذي يمر عبر أراضي الشمال.. وكانت الخرطوم قد طالبت جوبا سابقاً كتلويح تفاوضي بدفع (36) دولاراً مقابل البرميل في حين عرضت جوبا مبلغاً أقل بكثير.. فيما تنازلت الخرطوم إلى (30) دولاراً، وتمسكت جوبا بسعرها وبدأت التلويح بسحب ملف النفط من المفاوضات.. وفقد المراقبون في الدولتين الأمل المرتقب لانفراج الأزمة بين الدولتين.. إلى أن فجرت المفاجأة التي أدخلت المراقبين في الخرطوم وجوبا في ذهول.. وأغرقتهم في دوامة الحيرة.
{ الناظر إلى الأحداث يرى بما لا يدع مجالاً للشك أن السودان قد بذل مجهوداً كبيراً في مواجهة كروت الضغط المفروضة عليه من قبل المجتمع الدولي ورضوخه سابقاً لمفاوضة قطاع الشمال.. ورجح بعض الخبراء أن الأوضاع والمتغيرات السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية الخاصة بسباق الانتخابات دعم كثيراً من مجريات الأحداث.. حسب ما جاء على لسان المبعوث الأمريكي الخاص لدى السودان “برينستون” عن رغبة بلاده في تحسين علاقته مع السودان.
{ وكانت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، قد أذابت الصخور الجليدية بعد ساعة واحدة من حط رحالها بجوبا، وعقب انتهاء المهلة التي وضعها مجلس الأمن بسويعات، وكخطوة لإنهاء مسلسل من الصراعات الطويلة بين الدولتين احتار فيها المحللون عن نيتها الحقيقية.. هل (حمائمية) في طريق السلام أم (اقتناصية) للفرص. وحسب كلينتون فإن اتفاقاً مرحلياً وأمراً مستعجلاً سيمنح جنوب السودان الوقت الكافي لتوفيق أوضاعه في النفط. وقالت كلينتون عقب لقائها الرئيس سلفاكير: (يجب على البلدين التوصل إلى اتفاق بشأن النفط كخطوة أولى نحو إنهاء العداء) موضحة أن (هذه لحظات حساسة نحن الآن بحاجة إلى جعل هذه الموارد النفطية تتدفق مجدداً)، وتابعت: (نسبة من شيء أفضل من لا شيء). وهنا يظهر جلياً نيتها الاقتناصية لصيد الفرص واللعب على ورق المصالح.. فأمريكا التي ولدت بأسنانها لا تبذر بذوراً إلا لتجني ثمار مصالح. وطرحت كلينتون خلال زيارتها – التي امتدت لثلاث ساعات بين أجواء جوبا الغائمة ومفاوضاتها الضبابية – أهمية الاتفاق بشأن النفط، وزادت قولاً إنه على الرغم من أن السودان أصبح دولتين منفصلتين فإن ثرواتهما ومستقبلهما لا يزالان مرتبطين بصورة لا تفهم.
{ فيما برز قناص آخر مسترقاً للفرصة ودافعاً بورقة ملونة لواشنطن.. عندما قال وزير خارجية جنوب السودان “نيال دينق نيال” إنه قدم عرضاً سخياً للسودان بدفع رسوم أكبر مقابل نقل النفط ومبلغ (3.2) مليار دولار لتعويضه عن النفط المفقود، وأضاف في إشارة واضحة: (نأمل أن يتمكن المجتمع الدولي مع القيادة الأمريكية من إقناع السودان).
{ ورجحت بعض المصادر أن يكون الاتفاق جاء نتيجة لكشف جوبا نوايا المجتمع الدولي الحقيقية في عدم فرض عقوبات على السودان بعد انتهاء المهلة المزمعة من مجلس الأمن.. وهو الأمر الذي راهنت عليه جوبا لإبراز الخرطوم في موقف المتعنت.. خاصة وأن هيلاري هاتفت كرتي في وقت سابق من أمريكا بشأن نواياهم الطيبة تجاه الخرطوم، ومؤكدة أن توتر الأجواء بين الشمال والجنوب لن يمس علاقة أمريكا والخرطوم.. في حين يرى مراقبون أن للأمر ما بعده بالنسبة للامريكيين.
{ وحول مآلات المرحلة من الاتفاق وما ستسفر عنه مستقبلاً يرى د. عز الدين إبراهيم، وزير الدولة بالمالية سابقاً، في حديثه لـ (المجهر) عدم الإسراف المفرط في التفاؤل بشأن تجاوز الحكومة لملف النفط، معللاً رؤيته بوجود بعدين للاتفاق؛ الأول يبدو مظلماً من الاتفاق وهو إغلاق الأنابيب لفترة طويلة، مما يجعل من تدفقه بالمعدل القديم صعباً، وقال إن البترول يحتاج إلى فترة طويلة شاقة لإعادة الصيانة والنظافة من الشوائب العالقة بجانب الضرر الذي يكون قائماً بالأنابيب.
وفي الجانب المشرق للاتفاق توقع د. إبراهيم أن يسهم المبلغ المتفق عليه 26 دولاراً للبرميل في رفع العجز الواقع بالميزانية جنباً إلى الإجراءات التقشفية الأخيرة، مما سيعبر بالميزانية إلى بر الأمان بجانب استقرار سعر الصرف وتهدئة الخواطر السياسية، وقال إن السودان يمتلك الآن ورقة اليانصيب الرابحة ولا مجال معها لمراوغة الجنوب مجدداً، وأن زمان الهيمنة من قبل الجنوبيين وإخلالهم بالاتفاقيات الدولية قد ولى، فالبترول سيعبر من خلال السودان الشمالي مما يشير إلى (رعي المصالح) وسهر الجنوب على مصالحه مع الشمال.
{ ويعتقد عبد الرحمن ضرار وزير الدولة بالمالية سابقاً أن حديث هيلاري عن أن الاتفاق مرحلي يعني ترك الباب موارباً لتوقع مزيد من المفاوضات مستقبلاً، ويرى أن الاتفاق الموقع بين طرفي التفاوض سيوفر ما لا يقل عن (18%) من إجمالي الإيرادات أي توفر (28%) من جملة (23) مليار، مما يعني رفد الميزانية وتغطية العجز الواقع وتفاءل ضرار بالآثار الايجابية المتوقعة من زيادة احتياط النقد الأجنبي بالبنك المركزي وإحباط ممارسات السوق السوداء وبالتالي انخفاض الأسعار في الأسواق وعودة الحياة إلى جسد الاقتصاد.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية