بعد الغياب …
ثلاثون يوماً أمضيتها بعيداً عن مهنة الصحافة ولكن لم نبتعد عن الكتاب والقرطاس والقلم وثقافة الإجازة.. الاستراحة في هذا البلد الذي يكدح فيه الإنسان المهدور القوى من الصباح الباكر حتى الهزيع الأخير من الليل في سبيل لقمة العيش، قد يعتبرها البعض ترفاً ورفاهية ولكن الاستراحة قد تجعل الإنسان يخلد لنفسه ويراجع مسيرته ويتدبر شأنه الخاص والعام.
ومراجعة النفس قيمة روحية وأخلاقية وعقدية من أجل تصحيح المسار، و قد كانت إجازتي فرصة لكتابة آخر فصول كتابي (حريق جبال النوبة) ، وهو جهد عبارة عن حصاد مشاهدات وقراءات لمآلات الصراع ومشكلة السودان في جبال النوبة. اكتملت حلقات الكتاب بالفصل الأخير عن مصير المنطقة التي تخيم عليها الآن الأحزان والمآسي بعد أن سدت دروب الحل وتبدد الأمل في أن تشهد بلادنا استقراراً في المدى القريب المنظور، والكتاب الذي لن أتحدث عن مضمونه الآن حتى لا يعتبر ذلك دعاية لجهد النفس الأمارة بكل أطماع الدنيا، نترك الكتاب حينما يصل للقراء ليحكموا له أو عليه، ولكن إجازة الثلاثين يوماً بقدر ما كانت أياماً سعيدة طفت فيها كردفان ومضارب الأهل في الوديان والقرى والفرقان، كانت في بعض جوانبها حزينة، حيث ابتعدت عن قراء هذه الصحيفة التي تعطي الكاتب ولا تأخذ منه شيئاً و(المهجر) المنبر.. و(المجهر) المجتمع.. و(المجهر) القيادة والقراء.. هي حضن دافئ في الشتاء وأجواء باردة في الصيف وقد اكتشفت ارتباط القراء بهذه الصحيفة وسيل الاتصالات لا ينقطع عليّ (متى تعود؟)
طيلة الثلاثين يوماً التي غبت فيها عن ساحة الصحافة وأعني القراء.
وقد كانت الأحداث في البلاد تأخذ بتلابيب بعضها البعض من قرارات اقتصادية في ظاهرها القسوة على المواطنين، ولكن في جوهرها خطوة نحو إصلاح التشوهات في الاقتصاد الوطني برفع الدعم عن السلع والمحروقات، ولكن الفريق الاقتصادي ظلت حسابات السياسة حاضرة عنده حينما يتخذ قراره، ولم يحقن الفريق الاقتصادي جسد الاقتصاد بكامل الجرعة المطلوبة، وربما جاءت حقنة أخرى مع مشروع الموازنة من أجل صب دواء العافية في الجسد الاقتصادي.
لكن هل مشكلة الاقتصاد أرقام حسابية أم أخطاء سياسية، وهل تنجح أي وصفة لعلاج علل الاقتصاد من دون إصلاح سياسي حقيقي بوقف الحرب واستئصال أسباب النزاعات في البلاد؟
تلك قصة طويلة، ولكن اليوم نعود بالأمل والرجاء في المساهمة في نهضة بلادنا من خلال مسارب الضوء عبر صفحات الصحافة الورقية.. غداً نعود.