بعد.. ومسافة
ماذا لو تمسك الفريق “عبود” بالحكم والرئاسة ؟
مصطفى أبو العزائم
لم يعش صاحبكم تفاصيل ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر 1964م، إذ كان وقتها طفلاً غريراً لم يبلغ الثامنة من عمره بعد، لكن حالة التغيير في حركة الشارع والتظاهرات المستمرة ما زالت صورتها راسخة في الذاكرة. وزاد تلك الصورة رسوخاً أن البيئة التي عاش فيها كانت تحتم عليه أن ينفعل مع الأحداث الكبرى في البلاد، وتظل تلك الثورة الشعبية أعظم حدث سياسي يقابله صاحبكم في حياته حتى تلك اللحظة، لكن مع مرور الوقت وازدياد الوعي والاهتمام بالشأن العام والانغماس عاماً بعد عام في أمور السياسة والتأثر بها، إضافة إلى انشغال حقيقي واهتمام زائد بمراقبة المشهد السياسي ومحاولات قراءة التاريخ وتفسير الأحداث وفق معطيات عصر وقوع الحدث، وجد صاحبكم نفسه مهتماً بذلك الحدث الكبير فالتقى بكثير من صنّاعِه وأجرى معهم الحوارات القصيرة والمطولة بحثاً عن الحقيقة من أوجهها المتعددة .
خلال مسيرة طويلة في العمل الصحفي امتدت لعقود ظل فيها كاتب هذه المادة قريباً من مسرح الأحداث، ومن صناعها، يمكن أن يخرج بنتيجة قد تقيم عليه الدنيا ولا تقعدها، وهي أن ثورة أكتوبر لم تكن إلا استغلالاً من السياسيين للطاقات الشعبية وتحويلها إلى طاقات سالبة في مواجهة نظام حكم الرئيس الفريق “إبراهيم عبود” وصحبه الأبرار، واستغلال أحداث التمرد في جنوب السودان (القديم) والتباكي على استخدام السلاح في مواجهة التمرد والمتمردين، ثم تحريك النقابات المُسيّسة للإضراب عن العمل، خاصة نقابة السكة الحديد التي كانت عصب الحياة وشريانها في البلاد.
إذا ما قمنا بدراسة للواقع السوداني في ذلك الوقت، نجد أن (نظام العساكر) ذاك حقق خلال ستة أعوام ما عجزت عن تحقيقه كل الأنظمة الديمقراطية طوال سني حكمها، بدءاً من الطرق الداخلية ثم طريق مدني الخرطوم، فمصانع السكر في الجنيد وخشم القربة وغيرها إلى جانب إنشاء عدد من الكباري النيلية والنهرية وتأسيس الخطوط البحرية السودانية ومصانع تعليب الفواكه وتجفيفها، والتعاون مع كل العالم من خلال زيارات مشهودة للفريق “عبود” حتى أن مغنيي ذلك الزمان تغنوا له بـ(بلبل طار وغنى يحكي للعالم عنا)، لكن الذي يؤخذ على نظام الفريق “عبود” – رحمه الله- تمثل في محاربته الشرسة ووقفته الصلبة في مواجهة من كانوا وراء التمرد، تحديداً مجلس الكنائس العالمي الذي سعى إلى تنفيذ أكبر حملة تنصيرية في أفريقيا بجنوب السودان لوقف زحف الإسلام وتغلغله في القارة السمراء عبر بوابة السودان الجنوبية، لذلك تحرك الغرب ضد النظام وحرّك حلفاء الداخل بعلمهم أو بدونه ليكونوا مخلباً له للقضاء على هذا النظام (المزعج) رغم أنه لم يأتِ للسلطة عبر إنقلاب تقليدي، فقد ثبت أن أكبر كتلتين سياسيتين وهما حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي وبقيادة راعيي الطائفتين الدينيتين الأكبر في ذلك الوقت السيد الإمام “عبد الرحمن المهدي” والسيد “علي الميرغني” كانوا جميعاً وراء حث الجيش في أعلى مستوياته لتسلم السلطة وتجنيب البلاد الانزلاق في أبشع أنواع الصراعات السياسية .
ربما تكون أكبر أخطاء نظام الفريق “إبراهيم عبود” ورفاقه الكرام – رحمهم الله – هو قصور رؤيتهم السياسية وعدم وجود رغبة سابقة لديهم في الحكم، وهو ما صرفهم عن التفكير في بناء نظام سياسي قوي يقوم على أرضية شعبية من خلال تنظيم سياسي أسوة بما كان يحدث في كثير من الدول التي تحدث فيها تحولات عقب الانقلابات العسكرية، هذه واحدة. أما الثانية فهي عدم الالتفات إلى النقابات والإدارات الأهلية لكسب ودها حتى تكون سنداً للنظام أمام التحديات التي تواجهه أو أمام المواجهات الحزبية المحتملة، أما الثالثة فقد تمثلت في أن النظام لم يحفل بالذين حاولوا أن يستغلوه من تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية مثل عدم اهتمامه بمشاركة الشيوعيين في المجلس المركزي الذي كونه النظام ليكون بديلاً للمجالس النيابية أو البرلمان .
يؤخذ على نظام الفريق “إبراهيم عبود” وصحبه الأبرار – رحمهم الله – تنازلهم عن أراضٍ سودانية تاريخية ومدن مأهولة لصالح بناء السد العالي في مصر، وهذا هو ما استغله خصوم النظام وطرقوا عليه كثيراً وعبأوا الناس ضدهم فامتدت المظاهرات لتشمل كل البلاد ولم يكلف النظام نفسه تقديم شروحات منطقية ومقنعة لذلك العمل مما عمق الإحساس لدى العامة بأن الانفراد باتخاذ القرار هو سمة أساسية من سمات النظام. وكان في إمكان النظام وقتها أن يسوق للفكرة تسويقاً يليق بالعلاقة بين الشعبين الشقيقين ويعكس ما يعود عليهما من منافع، مثلما كان في إمكان النظام وقتها أن يشرك القوى المجتمعية في هذا الشأن لكنه لم يفعل، وهو ما حسب عليه لاحقاً وأصبح خصماً عليه لا إضافة له .
ابتعاد السياسيين المحترفين المتفرغين للعمل السياسي عن مقاعد الحكم ونهمهم للسلطة، مع تحريك خارجي لبعضهم إضافة إلى أحلام أحزاب جديدة ووليدة بالوصول إلى مقاعد الحكم لتنفيذ برنامجها السياسي أو حتى لإبراز حجمها المتنامي مقابل تقاصر قامات الأحزاب السياسية التقليدية الأخرى أمامها، جعل قادتها يتحركون ليكونوا في مقدمة دعاة التغيير وقادته. والدكتور “حسن الترابي” – رحمه الله – نموذجاً، بينما تحرك الشيوعيون لضرب النظام الذي لم يحفل بهم وللانتقام من القوى التقليدية التي ناصبتهم العداء، وللوقوف أمام القوة السياسية الجديدة المتنامية المتمثلة في الحركة الإسلامية الخارجة عن جماعة الإخوان المسلمين.
قطعاً المساحة لن تكفي لتحليل الدوافع والأسباب التي أدت إلى الإطاحة بالفريق “إبراهيم عبود” وصحبه الميامين رحمهم الله، ولكننا نطرح سؤالاً مهماً هو: (ماذا لو رفض الفريق “عبود” التنازل عن الحكم؟) كان يمكن أن يحدث ذلك لو أنه كان طامعاً حقيقياً في السلطة، وربما أصدر البيانات التي يبرر بها فعلته تلك، وربما بقي في السلطة حاكماً بأمره إلى أن يلقى ربه .. لكن المؤكد أنه لو فعل ذلك ما سيجد من يهتف له (ضيعناك وضعنا وراك يا “عبود”). رحم الله الفريق “إبراهيم عبود” وصحبه الكرام أعضاء المجلس العسكري الأعلى وكل أركان نظامه المشهود لهم بنظافة اليد والذمة واللسان.