كلمة "موسفيني"
من بين الكلمات والخطب المعبِّرة جداً يوم أمس في احتفالية السودان بالجلسة الختامية لأعمال الحوار الوطني، تلك المواعظ والحكم التي جاءت على لسان الرئيس اليوغندي “يوري موسفيني” الذي انصرف عن تعابير (المجاملات) وتطييب الخواطر وعادة مدح الضيف لضيفه حتى لو كان مدحاً كاذباً أو لغة دبلوماسية.. فالرئيس اليوغندي الذي يعتبر من أطول الرؤساء عمراً في القارة الأفريقية التي دائماً ما يحكم قادتهم بلدانهم من الصبا والمراهقة السياسية حتى الإصابة بالزهايمر وفقدان المناعة.. والمشي مكباً على وجهه، وهناك رؤساء يحملون اليوم على أكتاب حراسهم.. و”موسفيني” الذي ورث الحكم في بلدٍ لم تعرف الاستقرار وشعب شقي طويلاً بالانقلابات والصراعات.
أهدى “يوري موسفيني” للسودانيين عبرا ودروسا وألقى على أسماعهم ما هم في حاجة إليه، حينما قال: إن السودان عاش سنوات حرب بسبب صراعات الهوية الداخلية.. واستطرد قائلاً : ماذا يعني هذا عربي وذاك أفريقي؟.. وماذا يعني أنت مسلم وأنا مسيحي؟.. هل القبيلة والعرق يبنيان مدرسة ويشيِّدان مستشفى وينهضان بدولة؟.
والرئيس “يوري موسفيني” أشار إلى تردي علاقة بلاده بالخرطوم لسنوات طويلة بسبب الحرب في جنوب السودان، ولكنه اعترف بخطأ الأمس، وفي لحظة وفاء نادرة أشار الرئيس اليوغندي لامرأة تدعي “نجوى قدح الدم” امرأة سودانية تعمل في المنظمات الدولية (بفينا). حدثته لماذا لا يمد يده إلى السودان ويزوره ويطوي سنوات الجفا التي تطاولت.. وأشار “موسفيني” بيده لسيدة كانت تجلس في القاعة ولا يأبه لها الكثيرون.. إذا كانت رؤية “موسفيني” العميقة لأسباب الحرب هي صراع (الهويات) والحقيقة (الهويات) لا تتصارع، بل الذين يدعون إن لهم (هوية) أصيلة وللآخرين هوية ثانوية هم من يتصارعون، فالعروبة ليست شحنة سالبة من المشاعر نحو الآخرين.. ولكن أدعياء العروبة هم من يحملون مشاعر سالبة نحو الآخر.. و(الأفريقانية) هي تعريف ملتبس جداً لجغرافية تضم تكوينات زنجية وعربية وأوروبية، لأن نصف أفريقيا عرب والنصف الآخر زنوج وبعض الملونين.. وبالتالي الحديث عن (الأفريقانية) هو حديث جغرافيا لا هوية.. ومن قال: إن العرب بالضرورة هم أعداء الزنوج؟ وهل تاريخ العرب كله موغل في العبودية وتجارة الرق أم حتى الزنوج أنفسهم مارسوا العبودية والرق بحق بني جلدتهم من السود؟.
إن السودان في الواقع هو أرض التمازج الثقافي و(الهويات) التي تعزز فرص بعضها البعض في الذيوع والانتشار، وبالتالي حينما جرت مناقشات في الحوار الوطني عن الهوية والحوار المجتمعي فإن المقصود هنا.. البحث عن مشتركات بين (هويات) السودانيين وثقافتهم.
نعم، هناك من يعتقد أن بالسودان هوية واحدة غالبة.. وذلك عين الخطأ، فالهوية مهما قل عدد حامليها تظل هوية مثل هوية الغلبة والأكثرية.
ولا يمثل تعدد الهويات.. والأديان والثقافات دلالة ضعف وأسباب صراع بقدر ما هو مصدر ثراء وقوة، والرئيس “يوري موسفيني” أكثر الرؤساء الأفارقة إحساساً بخطر الصراع على أساس الهوية.. وقد تقرحت عيون رئيس يوغندا من مشاهد الدماء والقتل على الهوية في بلدٍ تجاور بلاده، ونعني بذلك رواندا التي بعد أن غرقت في الدم أخذت اليوم في التعافي، لذلك الرئيس “يوري موسفيني” أكثر تأثراً بما جرى في القرن الماضي.. لذلك له اهتمامات عميقة بمسألة الهوية، قد يعتبرها البعض محض أوهام معلقة في الهواء، ولكن في مظهر أزمات بلادنا الخارجية هي شيئ من هذا.
إذا كان “موسفيني” قد منح امرأة اسمها “نجوى قدح الدم” بعضا مما تستحق وأكرمها بالإشادة بدورها أمام الرئيس “البشير”.. فمتى ينصف السودان هذه المرأة التي خدمت وطنها السودان على صعيد العلاقة مع يوغندا أكثر من خدمة السفير الذي أصبح ضرره أكثر من نفعه، خاصة في محطة مهمة مثل كمبالا.. تجمع بالمتمردين والمعارضين وتجار الحلال وتجار السلاح.