الرحيل المُر
في هذا العام انصرفت عن الدنيا رموز مجتمعية وسياسية كبيرة في ولايات دارفور وبصفة خاصة ولاية جنوب دارفور الكبرى، رحل الناظر “صلاح الغالي” وترك رفقاء الدرب والمسير الشاق الطويل يذرفون عليه الدمع السخي.. ولم تمضِ أيام على غياب “صلاح” حتى لحق به صديقه وجاره وحبيب قلبه ناظر الفلاتة “أحمد السماني”.. ليضيف إلى الدمعة لوعة وحسرة في غياب كبار البلاد وقادتها الذين عاشوا محنة الحرب وفتنة الصراع القبلي وبفطنتهم، خرجت دارفور من مأزق الاندثار والسقوط.. وفي عز الخريف يتخطف الموت الناظر “سعيد موسى مادبو” زعيم (الرزيقات) وعميد الإدارة الأهلية في دارفور.. يضمد الجراح ويغسل الدماء من الثياب البيضاء بحكمة وفطنة القادة الكبار.
وقد ورث “سعيد موسى مادبو” الحكم من والده الناظر “موسى” الذي يصفه العرب (بصدر الباحش) أي الأسد الرابض.. وقاوم “سعيد موسى مادبو” كل محاولات إضعاف الإدارة الأهلية وتسييسها وجعلها تابعاً ذليلاً للسلطة.. وفي سبيل ما يؤمن به من مبادئ وقيم وعقل راجح وعمق نظر.. تعرض “مادبو” للكثير من المحن والمشكلات، لكنه صبر وتمسك بمواقفه المبدئية، وفي نهاية الأمر ثبتت صحة موقفه. كان الراحل “سعيد موسى مادبو” حكيماً صادقاً متجرداً من المطامع الشخصية والأهواء الذاتية.. لأن دار (الرزيقات) هي للسودانيين بمختلف سحناتهم وقبائلهم وخشوم بيوتهم.. دار (الرزيقات) جمعت بفضل “سعيد” صدر هذه القبيلة الكبيرة البرقد.. وخزام.. والزغازة والبديرية والمعاليا والدينكا والفور والمساليت والجعليين، وكانت سوداناً صغيراً صدت عن السودان أطماع الطامعين.. ودافعت عن البلاد بفراسة العرب الرحل وفطنتهم.. وظل نصيبها من السلطة صفراً كبيراً رغم عطائها الممدود حتى أنصفتها الإنقاذ في السنوات الأخيرة، بتكليف ابن المنطقة “حسبو محمد عبد الرحمن” لتكسب الإنقاذ أحد الذين نهلوا من مدرسة وأكاديمية الناظر “مادبو” التي ترفد للحياة العامة كل يوم نجماً في الإدارة الأهلية وقائداً في المجتمع وسياسياً في المنابر والمجالس.. وقد كان الناظر “سعيد موسى مادبو” يمثل جيلاً أخذ في الانصراف الآن ليأتي جيل جديد من بعده.. وهكذا الدنيا.. يذهب الناظر “سعيد موسى مادبو” بعد أن أفنى كل عمره في خدمة أهله ووطنه ودارفور.. آخى بين الفور والزغاوة وجفف دموع البرتي والميدوب.. وأمسك بالرزيقات.. من الدخول في نزاعات مع أبناء عمومتهم المعاليا.. كانت فطنته في التصالحات هي ما عصم قبيلته من الانزلاق في حروبات دارفور. يحفظ التاريخ للرزيقات دورهم التاريخي في التآخي بين القبائل والمجموعات التي تشاركهم منافع الأرض من الماء والعشب.. وكانت القبيلة جسراً يجمع ثوب الوطن شماله بجنوبه، ولكن السياسيين مزقوا السودان وضحكوا على ما تبقى منه (وربنا يستر) من القادم.
اليوم تبكي دار (الرزيقات) حكيمها وشيخها وقائدها وزعيمها الذي انصرف مهرولاً ليجلس إلى جوار “أحمد السماني” و”صلاح الغالي” وتنتقل القيادة في كل جنوب دارفور لجيل جديد يستمد من فطنة “مادبو” ودهاء “صلاح الغالي” وصبر “السماني”، ما يعينهم على مشقة الدرب وطول المسير وقلة الزاد.. ونقص العتاد. في هذا اليوم يجتمع (الرزيقات) في “الضعين” من البحر إلى الصحراء ومن ديار الهبانية غرباً إلى ديار المسيرية شرقاً، يستقبلون أهل السودان الذين هرعوا منذ الأمس للضعين يشاركون في وداع حكيم من حكماء السودان وزعيم للإدارة الأهلية.. كان حكيماً وتقياً في نفسه وصارماً وشجاعاً، لكن الموت سبيل الأولين والآخرين، و(إنا لله وإنا إليه راجعون). مات “مادبو” وتبقى دار (الرزيقات).. مات “مادبو” ونحن أحوج لفطنته وحكمته وشجاعته.