الذكرى المنسية
مرت أمس الذكرى الخامسة لاندلاع حرب المنطقتين.. لم يتذكرها إمام مسجد ولا خطيب في منبر سياسي، وتجاهلت الذكرى الصحافة الوطنية كأن المأساة التي يعيشها إنسان هذا البلد ما هي إلا ثمرة مرة لبذرة الحرب التي أنشبت بأظافرها على خصر وطن ولد ينزف دماً.. وشب يتأوه ويتوجع كامرأة حبلى.. ومن فرط شدة الألم لفظ الوطن جزءاً من جسده.. معتقداً أنه سيشفى من المرض الذي شل قدره.. وأقعده عن المشي بين الأمم موفور الصحة.. ثابت الخطى.
خمس سنوات منذ اندلاع حرب المنطقتين.. ومؤسسات المجتمع المدني التي تدعي الفاعلية والانحياز للمواطنين، اختارت الصمت عن الجهر برفض استمرار الموت والنزوح والدموع والآهات والأحزان.
الخسائر الناجمة عن الحرب يصعب إحصاؤها.. لكن عدد المدارس التي أغلقت أبوابها وشرد طلابها.. وهام معلموها على وجوههم أكثر من (150) مدرسة أساس وأكثر من (10) مدارس ثانوية.. وتقديرات منظمة الهجرة الدولية تقول إن عدد اللاجئين من جنوب كردفان في دولة جنوب السودان (260) ألف نسمة.. و(93) ألف نسمة من النيل.. وقد رفضت الحكومة منذ اندلاع الحرب إعادة إنتاج قضية دارفور بفتح معسكرات النازحين داخلياً.. لكن جنوب مدينة الأبيض ترقد بالقرب من مطار المدينة أكواخ من الكرتون.. وبقايا العشب الجاف والجوالات الفارغة.. هؤلاء هم ضحايا حرب جبال النوبة.. وفي أطراف الخرطوم اليوم يصوم المسلمون ويفطرون على بلح وسلطة روب.. ووجبة تتفاوت ما بين غنية باللحوم إلى فقيرة.. ولكن هؤلاء البؤساء القاطنون في الأطراف يفطرون على بلحة واحدة إن وجدت، ولقمة عيش فتريتا.. وماء كركدي حامض.. ويتمسكون بخيوط أمل العودة إن قرر من بيده قرار وقف الحرب وإنهاء الصراع العقيم حول السلطة في هذه البلاد.
على الرقعة الجغرافية جنوب كردفان تمددت الحرب في جسد الولاية العليل.. وأصبحت محليات بأكملها يبتلعها التمرد.. ومحليات أخرى عواصم بدون ريف مثل الدلنج وكادقلي.. وفقدت المنطقة الفئات العمرية ما بين (18) سنة و(40) سنة، هؤلاء غادروا المنطقة إما لمدن السودان المطمئنة الآمنة.. أو ركبوا البحر واستغلوا قوارب الموت بحثاً عن ملاذ آمن، فأصبح البحر الأبيض المتوسط أكبر مقبرة لرفاة السودانيين الهاربين من جحيم الوطن. وحتى إسرائيل التي تكتب في دفاتر كراساتنا منذ الصغر أنها عدو العروبة والدولة التي ولدنا نحن السودانيين من أجل مهمة مقدسة نرمي بها في البحر ونستريح أصبحت إسرائيل ملاذاً ومأوى لبعض شبابنا يمزقون جواز السفر (الأخضر) والأسود ويقذفون به في عرض البحر كأن هذا الجواز قد أصبح عبئاً ثقيلاً يجب التخلص منه.. بطولة في زمن اللا بطولة.
الأرض الخصبة التي كانت تنتج الفول والذرة والسمسم والقطن أصابتها لعنة الدم.. أمسكت السماء ماءها وحل الجدب مكان الازدهار.. ونبت العشر في الأرض الزراعية.. وتفشى النهب.. والقتل والسرقات وتلك من تبعات الحرب وآثارها.. ووصمة العار الأكبر أن الحرب قد باعدت بين السودانيين وزرعت الشكوك وبددت الثقة.. وجعلت البعض يجهر بصوته عالياً: متى تذبحون بقرة الوحدة المقدسة وتوزيع الأسلاب على أصحاب الحقوق؟!.. وقد نزع ثوب القداسة من هذا الوطن يوم أن أصبحت أجزاؤه الجنوبية وطناً آخر.. مات منقو.. وانتحر الجندي المجهول وعاش من فصلنا ولكنها عيشة ذليلة.. في ليل الحرب الطويل لم تبقَ دمعة لم تزرف ولا آهة لم ترسل ولا عزاء فالسلام بعيد.. والاستقرار من الأمنيات المستحيلة وتفطرون على خير.
==