رأي

حكاية ود خالتي "عرفة"!!

أصغر أبناء خالتي المرحومة “عرفة” اسمه “منتصر”.. ولدته رابعاً بعد ولدين وبنت، وبعد انقطاع من الحمل، فقد كانت تلد ولادة قيصرة وشاءت إرادة المولى أن تحبل به بعد إجراء ربط (العرق) ففرحنا به أيما فرح لا سيما خالتي باعتباره آخر العنقود.. طيب!! مالنا ومال “منتصر” ابن خالتك!! أيوه.. أسوق قصته.. وأرجو أن لا يغضب مني القارئ باعتبار أن قصته من خصوصيات الأسرة، لكن كتاباتي كما عودت من يقرأها بوح صادق ألتمس منه في كثير من الأحيان المناصحة، فالمؤمن مرآة أخيه، وأخوي “منتصر” ابن أمي “عرفة”– يرحمها الله- تلك التي ربتني وهي صبية يافعة وأكرمت يُتمي، فقد غادر والدي الفانية وأنا ابن العامين.. كانت تدسني من الغرباء لأني كنت طفلاً سميناً بسبب تغذية الدلع- هكذا حدثتني- (إنت سحروك في أكل اللحم يوم وفاة المرحوم والدك.. فَطَر.. قِبض.. مات.. انكسروا علينا الناس .. الله يرحمو أبوك كان شيخ من شيوخ الطريقة التجانية.. غريب.. جا من فاس الماوراها ناس!! انشغلنا بالبكا وتحضير الجنازة وإنت كنت تجي تحت الشجر.. عارف يا التجاني الشجر حزن على أبوك ومات معاهو!! في نسوان اتنين من المعزيات كانن بيعاينن ليك وما قالن ما شاء الله!! كنت سمين وشايل ضنب الخروف، كنا بنجضوا ليك عشان كنت بتسنن!! الله يضرهن!! سحرنك في أكل اللحم).. هنا قاطعت أمي أختها الصغرى عرفة قائلة: (أبوك قبال أيام من وفاتو كان إتكلم معاي.. قال لي يا دار السلام أنا نجمي أفلْ.. قلت ليهو: يعني شنو؟ قال لي: ما حأعيش كتير.. قلت ليهو: بسم الله يا الحاج!! إنت ما شديد تحمد الله!! العمر الطويل ليك بتربي ويحيدك الشيح أحمد التجاني أبو العباس- هكذا كنّ ينادينني أماتي يرحمهن الله.. زينب، زمزم، وعرفة وخالي الأصغر الوحيد يرحمه الله.. ودار السلام أمي- أمد الله في عمرها).. طبعاً ما شاء الله هذه الأسرة الصغيرة تفرعت فروعها أبناء وبنات وأحفاد، كلهم انحدروا من رحم جدتي لأمي “فاطمة بت الفكي” وجدي “عبد الله ود أبزيد”– يرحمهما الله- ويقف أخي من أمي “سليمان آدم” الذي توفاه الله قبل سنوات، له الرحمة، علامة مميزة في أسرتنا، فقد أعالنا كلنا وسدّ فرقة ما كان لها أن تُسد، فقد احترف مهنة والده الحاج “آدم”– له الرحمة- كان مزواجاً كثير العيال-ما شاء الله.. هذا التداعي بسبب “منتصر” الذي أفرطت خالتى المرحومة “عرفة” في دلاله (دلع الفقارة البفقع المرارة)، أحياناً نهمس بهذه العبارة كلما نرى حاله لا يسر، فقد نشأ مدللاً ولم يواصل تعليمه الأولي، ولم يمتهن مهنة أسرتنا (النجارة) التي يجيدها كل أبناء الأسرة الذكور، فقد كانت مهنة أخي وخالي.. وفجأة اكتشفنا أن “منتصر” صار رجلاً تجاوز الثلاثين وانقطع راسو بعد وفاة خالتي “عرفة”، التي كانت وفاتها فاجعة لنا جميعاً، ومصيبة لـ”منتصر” الذي لم تفجعه وفاة والده “عبد الرضي غنيم”، وأظنه لم يكن يحسب حساب ذلك اليوم الذي فاضت فيه روحها بموت الفجأة (الذبحة)، وباءت كل المحاولات في إعداد وتأهيل “منتصر”.. شقيقه الأكبر مهندس طلمبات عربات الديزل، باءت كل محاولاته في تعليمه مهنة الطلمبات.. وبقية إخوتي الذين يمتهنون النجارة فشلوا في تعليمه مهنة الأسرة.. وفشل شقيقه الذي يكبره مولانا “محمد”، إمام الجامع، أن يهديه إلى الطريق السويّ.. وفشلت في أن أضمه إلى مجموعة الشبان الذين يمتهنون حرفة الغناء خاصة وأنه يمتلك موهبة الصوت الجميل، فقد استمعنا له في مناسبات الحلة مؤدياً لأغنيات الراحلين “مصطفى سيد أحمد” و”زيدان” وآخرين.. والغريب أن له ذوقاً جميلاً في اختيار الأغنيات، لكنه سرعان ما يهجر الغناء ويغيب عن الأسرة أياماً وليالي يقضيها مع أقرانه أصدقاء الصبا والطفولة، ومعظمهم على شاكلته (عايشين ودايشين).. وفشلت شقيقته “أماني” خريجة كلية القانون في هدايته.. الهادي الله..لأن “منتصر” له فلسفة خاصة ومنطق غريب، فهو مقاطع كل الأسرة، غير أن شعرة معاوية لم تنقطع بيننا أنا وشقيقه مولانا إمام الجامع وخريج جامعة القرآن الكريم.. طلعت في راسو مرة وطالب بحقه في الميراث في المنزل الوحيد للأسرة الذي أورثتهم له خالتي المرحومة “عرفة” برغم أن المنزل محل سكنه، حتى انتهى بأشقائه الأمر إلى محكمة الأحوال الشخصية ليقضي القاضي بنصيبه (بضعة ملايين من الجنيهات) “بالقديم” وهرع بها إلى مدينتنا الدويم أرض الميلاد، وهناك تزوج بفتاة طيبة اسمها “عرفة”، وأظنه تزوجها لتطابق اسمها ووالدته خالتي “عرفة” وأنجب منها ابناً يعلم الله كيف يكون مستقبله ووالده الذي بقي على حاله التي ذكرتها والتي لا تسر (عدو ولا صليح).. وهناك بمدينة الدويم تفتقت عبقريته ليبحث إرثاً آخر في طين سواقٍ تركه لنا الأجداد بقرية الترعة الخضراء، بضعة أفدنة، ترث فيها خالتي المرحومة “عرفة”، وأصبح هذا الأمر شغله الشاغل، خاصة بعد أن علم أن الإرث يساوي مبلغاً محترماً، فانتهز فرصة مرض خالته “دار السلام” (والدتي) وأقنعني بالذهاب إلى مدينتنا الدويم وشرعنا في إكمال الإجراءات.. ونحن بمنزلنا العتيق الذي ورثته عن والدي قلت له: شوف يا “منتصر”.. كلنا ولدونا في هذا المنزل.. أصبح منزلنا كلنا على الشيوع ولن أبيعه.. رد عليّ: بي طريقتك.. إنت قصدك مطالبتي بحقي في ميراث بيت أمي؟! دا حقي الرعي وأخدتو!! اتخيلوا تفكير “منتصر” أخوي!! ويا جماعة الخير أنا متأسف إذا صدعت بيكم وأنا أسرد بعضاً من حكاية أسرية خاصة.. لكن والله العظيم المادة طحنت حياتنا، والمال أيقنت أنه شيطان هذه الحياة والفتنة الكبرى التي تكدر صفو العيش، وكلنا يحتاج وقفة تصدٍ لهذا الشيطان الذي نراه قد دخل في تفاصيل حياتنا كافة برغم أن قيمته الحقيقية تتمثل في إنفاقه على مسار العمر الإنساني القصير، الذي مهما طال فهو متناهي القصر، والنهاية شبر من الأرض يوارى فيه الجسد الفاني، ولا يبقى من ذكرى الإنسان إلا عملاً طيباً يدخره رصيداً، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).. مالنا غلبت علينا الأثرة والجشع والأنانية؟!! ما بال أغنيائنا لا ينفقون من ما رزقهم الله؟! ما لنا نقيّم الإنسان برصيده في البنك ولا نقيّمه برصيده من العمل الصالح؟! والجسد لا يستره إلا ملبس واحد وتكتظ خزاناتنا بعشرات الثياب والعراة يملأون الدنيا!! ونأكل حتى نصاب بالتخمة وغيرنا في الإنسانية يموت بفقر الدم والأنيميا والجوع.. ولقمة المؤمن بربو.. حلوة لمن تنقسم.. وأحلى لو أداك بقلبو إنت تأكل مبتسم!! ما لها الدنيا ومآلها خراب.. وكلنا عند النشور سنقوم من أجداثنا ننسل كما ينسل صغار الجراد من الرمال، ولسان حالنا يقول يا ويلينا من بعثنا من مرقدنا هذا.. يوم يفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه.. يوماً يشيب فيه الولدان وكلٌ في شأن يغنيه.. جرب أغفر للبخونك تلقى أعداءك قُلال.. ولقمة العيش النضيفة تحلى بي كسب الحال، وما المال إلا مال الله، وكلنا محاسبون.. إذا وقعت الواقعة يومها الأمر كله لله يا “منتصر” أخوي!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية