مشاهد ومواقف (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
دكتور “الترابي” الذي عرفته
“الترابي” السياسي والمفكر
د. مصطفى عثمان إسماعيل
الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، ويُستخدم في الدراسات المتعلقة بالعقل البشري، ويشير إلى قدرة العقل على تصحيح الاستنتاجات بشأن ما هو حقيقي أو واقعي، وبشأن كيفية حل المشكلات. ويمكن تقسيم النقاش المتعلق بالفكر إلى مجالين واسعي النطاق. وفي هذين المجالين، استمر استخدام المصطلحين “الفكر” و”الذكاء” كمصطلحين مرتبطين ببعضهما البعض.
كلمة (الفكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جداً على ألسنة العامة والخاصة اليوم؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف الفكر بأنه: (إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول). ويقولون: فكّر في مشكلة: أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها. ولعلنا نعرف التفكير بأنه (إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل مشكلات أو كشف العلاقات والنسب بين الأشياء).
ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئاً مطابقاً للأحكام والمبادئ، ولا مطابقاً للثقافة أو العقل أو العلم، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل.
وبناء على هذا فإن العالم غير المفكر، فقد يكون المرء عالماً ولا يكون مفكراً. وقد يكون مفكراً ولا يكون عالماً، وذلك لأن الميدان الأساس للعلم هو الإلمام بالجزئيات؛ أما ميدان الفكر فهو إبصار (الكليات) والاشتغال عليها؛ وقليل أولئك الذين يسمح لهم الاشتغال بالجزئيات بالتوجه إلى النظر الكلي، كما أن طبيعة الاشتغال بالقضايا الكبرى (تزهد) المفكرين في الاهتمام بالمسائل الجزئية، حيث يرون أنها مندرجة في أنظمة أشمل تتحكم فيها. ومع افتراق الطبيعيتين إلا أن هناك خطوطاً عريضة تجمع بينهما، أهمها أن كلاً من المعطيات الفكرية العامة والجزئيات العلمية الصغيرة يميل إلى الظن والتخمين والبعد عن اليقين؛ وذلك بسبب أن الجزئيات هي مناط الاجتهاد، ونتائج الاجتهاد تكون في الغالب ظنية، كما أن وفرة العناصر والمعطيات التي تساعد في تكوين الرؤى الكلية تجعلها بعيدة أيضاً عن الصلابة والجزم؛ لكن (الإحالات الثقافية) والخبرات المتراكمة تنقلها إلى حيز اليقين أو الرفض أو التعديل بعد مدة زمنية معينة.
لكن هذا لا يهوّن أبداً من شأن المعطيات الفكرية؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية أنه (لا شيء يضيع)؛ فالفكرة مهما كانت، تترك انطباعاً معيناً سلبياً أو ايجابياً؛ فقد تشكك في مسلمة من المُسلّمات، وقد تعزز ظناً من الظنون، وقد تنبه إلى شيء منسي، وقد تنقذ أمة من كارثة محققة!!
وكثيراً ما يحدث أن تأتي الفكرة قبل أوانها أو في غير محيطها؛ فلا تحدث اضطراباً في الواقع العملي، وهي أيضاً لا تضيع لأنها ستشكل الخميرة التي سوف تنبت يوماً ما أفكاراً أو حلولاً حين تجد المناخ المناسب.
وهناك إلى جانب هذا سمة أخرى أساسية للأفكار، وهي أن الأفكار التي نستخدمها في حركتنا الاجتماعية تكون في العادة ملائمة للظروف والأحوال المحيطة بها، ومهمة الأفكار إحداث تغيير ناجح في تلك الظروف نحو الأفضل والأسمى، وهذا التغيير الذي يحدث يوجب علينا تغيير الأفكار التي نجحت كما تغير الأفكار التي أخفقت، وذلك لأن تغيير الأفكار للظروف يوجدها في ظروف جديدة غير ملائمة لها، وهذا مشاهد في الأعمال الإصلاحية الكثيرة التي حدثت في العالم؛ فحين تطرح أفكاراً وأساليب لتحقيق النظافة العامة، مثلاً فإن تلك الأفكار تفقد وظيفتها وأهميتها حين تصبح النظافة عادة للناس، ويصبح الحث عليها غير ذي معنى، وحين تبلور أفكار في ضرورة إرسال الأولاد إلى التعليم الجامعي، ثم تنجح تلك في تحقيق مقصدها يصبح الحديث عن تلك الضرورة غير مفهوم وهكذا.. وهذا يعني أن كثيراً من الأفكار تنتهي صلاحيته ليس في حالة إخفاقه فقط وإنما في حالة نجاحه أيضاً.. وهذا مغاير بالطبع لحقيقة المبادئ والقيم العليا التي تتأبى على التحقق الكامل، ويظل بينها وبين التمثل الواقعي هوة دائمة مما يصونه من الاستنفاد، ويجعل الحاجة إليها مستمرة، ويكمن مقتل النهضة الفكرية في كثير من الأحيان في التشبث بأفكار حققت غايتها، وفقدت وظيفتها، والزهادة في مبادئ توجب طبيعتها الخاصة وجوب المحافظة عليها؛ لأنها تمثل محور الحياة الفكرية التي لا قوام لها بدونه.
أهمية الفكر، صدّ تأكيد كثير من مفكري المسلمين على أهمية الفكر كثيراً من الشيوخ والشباب عن الاهتمام بمناهج الفكر وقضاياه، ظناً منهم أن ذلك الاهتمام سيكون على حساب العمل والتربية والأخلاق والسلوك.. وسبب هذا الظن أننا حين نتبنى توجهاً معيناً في الإصلاح نلح عليه إلحاحاً يوهم الآخرين بأننا لا نرى سواه، وأننا نهمل ما عداه؛ ومن ثم فإنني أبادر إلى القول: إن استقامة الفكر ونقاءه ليس بديلاً عن التربية ولا الأخلاق ولا أعمال الخير ولا الحركة الدعوية، ولكنه الشرط الأساس لصوابها ورشدها، فمهمة الفكر رسم مخطط الحركة وجعلها اقتصادية، بحيث تتكافأ نتائجها مع الجهد والوقت المبذول فيها، كما أنه يحيّد كل الوسائل والأساليب التي ثبت قصورها ويكثف الخبرات والتجارب المكتسبة في بعض المقولات والمحكات النهائية، ويساعد على طرح البدائل والخيارات في كل حقل من حقول العمل، وهذا كله لا يتأتى عن غير طريق الفكر.
فكر التربية عند الترابي: كتب الكاتب “وائل علي” تحت عنوان (مراجعات الترابي الفكرية متى يقرأها الإخوان)، حيث قال كان أول ما ابتدعه “الترابي” في فكر الإخوان الجديد، عقب الانشقاق، هو رفضه التام لفكرة التربية التنظيمية ونظام الأسر والحلقات، إذ قال إن فكرة التربية التنظيمية التي تمارس داخل الإخوان أشبه بتربية الدواجن، إذ يتم حشو رأس الشباب بأفكار عامة وشعارات رنانة عن الإسلام والعمل له والدولة الإسلامية، دون تثقيفه بما ينفعه لتحقيق هذه الغايات بدراسة العلوم السياسية والفلسفة والآداب والفنون.
يرى “الترابي” أيضاً أن التربية داخل الإخوان تعتمد على التلقين، ولا يوجد مجال واسع للحوار والمناقشة، معتمداً في رأيه هذا على المنهج التربوي الذي يدرس للإخوان في الأسر الذي يوصي بعدم الجدل في أي شأن من الشؤون، أيا كانت، فإن المراء لا يأتي بخير)، ودائماً ما استخدمت للحسم، ولكن على الرغم من رفض المراء فهو يرى أن قفل باب الجدل في كل الأمور هو ترسيخ للديكتاتورية التنظيمية والسيطرة الأبوية، التي أخرت الفهم الصحيح للشورى وإلزاميتها والتدريب على الجهر بالرأي المخالف، يقول الرسول الأعظم “صلى الله عليه وسلم”: (لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس أن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم).
أولوية الدولة عند “الترابي” حيث تأتي مراجعة “الترابي” لأولوية الدولة على المجتمع كأهم مراجعة قام بها مفكر إسلامي في العصر الحديث، فدائماً يكتب الإخوان المسلمون في مطوياتهم ومنشوراتهم أن أهدافهم تنحصر في تكوين الفرد المسلم (سليم العقيدة، صحيح العبادة،…) ثم تكوين الأسرة المسلمة، ثم إنشاء المجتمع المسلم، ثم الوصول إلى الدولة المسلمة، ثم الوصول إلى الخلافة وما يسمونه بأستاذية العالم، وطبعاً هذا فكر طموح جداً وغارق في المثالية بالنسبة لـ”حسن الترابي”، الذي يرى أن فكرة العمل على الأرض في الدعوة، كما هي طريقة الإخوان والسلفيين، دون العمل على التغيير من فوق بالعمل السياسي أو خلافه، هو ضرب من العبث. ويعتقد جازماً أن التغيير الذي تصنعه الدولة في حياة الأفراد ربما يكون أقوى من أي تأثير دعوي وعظي، ويبدو أنه متأثر كثيراً بدراسته القانونية والدستورية لماهية الدولة، التي تعتبر نفسها مسؤولة عن كل شيء كما يرى “ثوماس هوبز” في فكرة الدولة التنين، التي تسيطر على كل شيء في حياة الإنسان، بما في ذلك (الكنيسة والدين والمعتقد)، ولذلك يرى “الترابي” تكوين الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم الدولة الإسلامية ثم المجتمع المسلم.
تعد الدولة عند “الترابي” أهم أدوات التغيير، وينقل عنه أحد أشهر تلاميذه، الأستاذ “المحبوب عبد السلام”، أن نهج الإخوان المسلمين المعتمد على العمل الدعوي والانتشار على حساب العمل السياسي سيحولهم من تيار سياسي إلى طائفة دينية، وهذا ما ثبت حدوثه في كثير من الدول والمجتمعات الإسلامية.
ولعل الدرس الأكبر الذي يمكن أن يستفاد من حياة وأفكار تجربة “الترابي”، هو وقوفه ببصيرة نافذة وقدرة فائقة على التأقلم والتعلم أمام معضلة الدولة الحديثة وعلاقتها بالإسلام من ناحية وبالحداثة الغربية من ناحية أخرى، قال عنه المهندس “الطيب مصطفى” رئيس تحرير صحيفة (الصيحة) في مقاله التأبيني تحت عنوان (رحمك الله أيها العملاق)، فهو كذلك لا أبالغ إن قلت ما من رجل أثر في مسيرة السودان السياسية مثلما فعل شيخ “حسن” الذي على الرغم من أنه لم يبنِ مجده السياسي على إرث طائفي أو قبلي قد وضع بصمة بل بصمات كبرى في المشهد السياسي السوداني منذ أن التحق بمسرحه المضطرب من خلال إسهامه الضخم في إشعال ثورة أكتوبر 1964م عبر محاضرته الشهيرة في مواجهة نظام الفريق “إبراهيم عبود” داخل جامعة الخرطوم التي كان قد جاءها محاضراً ثم عميداً لكلية القانون بعد حصوله على درجة الدكتوراة من جامعة (السوربون) بـ”فرنسا”. ذلك الدور الأكتوبري هو الذي منحه الكاريزما التي أهلته لحصد أكبر عدد من أصوات الخريجين في الانتخابات التي جرت عام 1965م ودفع به كذلك لقيادة الحركة الإسلامية التي كان له دور مدهش في الانتقال بها إلى حركة جماهيرية واسعة الانتشار وتحقيق طفرات مدهشة هي التي جعلت منها رقماً صعباً في المشهد السياسي السوداني.
وتجدني أردد ما رثاه به تلميذه “أمين حسن عمر” قائلاً:
زعموك مبتدع لأنك مبدع فهم الجناة ولست أنت الجاني
صرح الديانة شدته بعــــــــــزيمة ورفعت أسقفه على الأركان
والدعوة الغراء أنت أمامها للنهضة العصماء أنت الباني
حكم الشريعة أنت كنت بصيره ونصيره بفصاحة وبيان
علمتنا نحـــــــــيا الحيـــــــاة عزيزة ودعـــــــــوتنا لمحبــــــــــــة الأوطان
دون شك إن شخصية “الترابي” السياسية ما كان لها أن تحتل هذه المكانة المرموقة لولا صفات توفرت فيها مثل العلم والشجاعة والمبادرة، وهذا ما سنتعرض له في مقالنا القادم إن شاء الله.
نواصل