أخبار

خربشات (الجمعة)

(1)
يقول “محمود صالح” وهو محقق ومثقف عميق المعرفة إن مفردات اللغة الإنجليزية مصادرها ثلاثة: الإنجيل، الشاعر “شكسبير” ولعبة الكريكت.. والإنجليز طبعاً هم من اكتشفوا كرة القدم لكنهم احتفظوا أيضاً بلعبة الكريكت وصدروها للمستعمرات في أفريقيا وخاصة جنوب أفريقيا التي وجدوا فيها طيب المقام وعذوبة الحياة، واعتدال المناخ والثروات في باطن الأرض وظاهرها.. وإذا كان ما ذهب إليه “محمود صالح” بشأن اللغة الإنجليزية أقرب للحقيقة فإن مصادر اللغة العربية أيضاً نستطيع الجزم بأنها القرآن الكريم.. والمعلقات السبع و”أبو الطيب المتنبي”.. مع أن فكرة تدين اللغات ليست في صالح الدين.. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين.. ولم تنزل المسيحية باللغة الإنجليزية كما يزعم البعض.. وقد حاولت بعض المدارس الفكرية العروبية في القرن الماضي (الربط) بين الإسلام والعروبة، لكنهم فشلوا، لأن ذلك لا يستقيم مع واقع أن أكثر من (70%) من المسلمين لا يتحدثون اللغة العربية وظل “صلاح الدين البيطار” و”ميشيل عفلق” مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي يزعم بأن العروبة ليست عرقاً بقدر ما هي ثقافة، والدعوة للبعث العربي هي بالضرورة دعوة للبعث الإسلامي.. ويعدّ العروبة بلا إسلام كالوردة بلا عطر، مع أن “ميشيل عفلق” نفسه مسيحي ولد في سوريا وتنقل بين لبنان والعراق. وفي أحاديث جرت في أتراحنا يوم (الثلاثاء) الماضي- أي في خيمة عزاء الراجل البروفيسور “التجاني حسن الأمين”- تجاذبنا حديثاً مع البروفيسور “يوسف فضل” مدير جامعة الخرطوم الأسبق عن أثر الأطراف في التغير وهل كانت دعوة الإسلام الحركي ستجد الشيوع أكثر مما هي عليه الآن إذا كان منبعها (الحرمين الشريفين)؟ وهل دولة (طرفية) مثل السودان لا يتحدث جميع سكانها اللغة العربية وهم مزيج من الدماء العربية والزنجية مؤهلة حقاً لقيادة المركز؟؟ وفكرة المركز نفسها من أين جاءت؟ وهل يتقبل مثلاً مركز الإسلام في الأراضي المقدسة أن يخرج داعية من الأطراف القريبة مثل السودان والأطراف القصية مثل الهند والسنغال، وتجد دعوته التجديدية الذيوع والقبول عند المركز؟ وهل لو كان مفكر وشاعر ومجدد مثل “محمد إقبال” سعودياً أو كويتياً أو إماراتياً بتعريف الجغرافية الحديثة سيكون شأنه كما هو شأنه الآن حتى يتخذه مثقفون محدودو العدد مثالاً للمفكر وحادي ركب التغيير.. واللغة العربية التي تعددت لهجات متحدثيها.. مثار خلاف عميق.. فأهل نجد يعدّون القرآن نزل بلهجتهم، وكذلك القرشيون الذين أسسوا للدولة القرشية الأولى بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وحتى أهل السودان اليوم يدعون أن لهجتهم هي الأقرب للقرآن من غيرهم.. ولكن مفكراً مثل “خير الدين التونسي” وهو من أصول أرمنية جاء إلى تونس (كعبد) مملوك لأحد تجار الرقيق فأسلم وتم تحريره، وصعد حتى منصب الوزير الأول في الدولة.. وإمعاناً في أثبات (تونسيته) أصبح معروفاً بـ”خير الدين التونسي”.. كانت له رؤيته حول اللغة وأثرها على شيوع الدين حيث تميز الإسلام بمرونة والقرآن بسهولة جعلته دين الأغلبية في الكرة الأرضية.
(2)
كثير من الأطباء جمعوا بين المشرط والسماعة وغرفة العمليات والولادة وبين النغم والطرب وعذب الكلام الذي يدغدغ الإحساس ويزرع الفرح في مكان الحزن، وبعض الأطباء لم يذع صيتهم ويبزغ نجمهم إلا من عذب الأشعار التي كتبت.. من يعرف مثلاً “المعز عمر بخيت” الذي كتب:
ما كنت أحسب حين غادرت الديار ستذكريني
وفي هدب ذاكرتك سأصبح عالقاً
وحسيت أني في محطة عاشقيك مسافراً
سأنام دوماً في الرصيف وفي حواف الأروقة..
ومن يتذكر الدكتور “علي شبيكة” كطبيب يزرع الأمل في المرضى الذين يعاودون عيادته في شارع (الاسبتالية) بأم درمان، لكن الملايين من السودانيين يتأوهون مع ثنائي العاصمة وهم يجملون دنياوات الطرب بما كتبه ذاك الطبيب الإنسان..
دنيا الريد غريبة سر ما بنفهموا
ناس أفراحها زايدة وناس يتألموا
بنكي الليلة منو وبكره الشوق يزيد
وأطول الليالي للزول البريد
ناس من كلمة عابرة كل الريد يهون
وناس في الريد تضحي بالروح والعيون
طبعاً مسألة التضحية بالروح والعيون هي صيغة مبالغة من الشاعر.. مثلما يقول العشاق إنهم يموتون في من يحبه القلب.. وكيف لإنسان أن يضحي بعينيه من أجل شخص آخر.. وهناك متبرعون بالكلى ومتبرعون بالدم لكن أن يتبرع شخص بعينيه من أجل أن يبصر آخر فتلك قصة لم تحدث بعد.. ولكن د. “علي شبيكة” يقول في ختام تلك الأغنية الرائعة التي لحنها “السني الضوي”:
كنا بنشكي ليك وكان قلبك حنين
وأنت ظلمت ريدنا عاد نشكيك لمين
دنيا الريد سعادة ودنيا الريد عذاب
ناس تجني المحنة وناس تجني السراب
ومن شعراء بلادي الأطباء الدكتور “عمر محمود خالد” الذي جمع الوتر والكفر.. والسماعة وكشف النظر.. لو لم يكتب الشعر ويشجع المريخ ويمشي وسط الناس يزرع الأفراح ما كان د. “عمر محمود خالد” وجد هذا الحب والتقدير.. وهناك “الزين عباس عمارة” الطبيب البارع، وهو يكتب الشعر على طريقة وأوزان الشاعر العراقي الكبير “بلند الحيدري” الذي كان طوال عمره متحسراً على فصله من كلية الطب ببغداد بسبب الشعر وهيامه في أودية الخيال وتجواله في الليل بشارع (أبو نواس).
(3)
قرى ومدن وأرياف جنوب كردفان لم تمسح دموعها الباكية منذ خمس سنوات، تمت مصادرة الأفراح وسكنت في قرانا الأحزان وسالت الدماء حتى امتزجت بمياه الأمطار.. حصدت الحرب أرواح المئات من الشباب.. والبندقية الخرساء حينما يموت حاملها لا تموت معه ولا تكف عن إطلاق رصاص الموت على الآخرين.. كثر ضحايا النزاع وتعددت طرق الموت.. والضحية واحدة.. والفجيعة مقيمة في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي- أي (الجمعة)- الماضية كانت قرية (مورنج) الواقعة جنوب شرق كالوقي إحدى مناطق نفوذ الكواهلة تنام على نسمات الشتاء الذي تطاول هذا العام وأجل دخول الصيف في منتصف أبريل، وشباب القرية أحلامهم في الزواج من فتاة يحبها القلب.. وكيلو ذهب يهبط عليك فجأة فتصبح من أثرياء البلد.. وحصاد موسم قادم يفيض بإنتاج الذرة والسمسم.. وأن يصبح خزان أم خميرة منطقة لإنتاج البقوليات.. والفاكهة.. لكن في هجعة الليل يهاجم متمردو الحركة الشعبية وهم يسيرون على أقدامهم مقار القوات المسلحة يباغتون الجيش قليل العدد.. ويتم الاستيلاء على بعض ما خف وزنه وغلا ثمنه.. وتصدى شباب قرية (مورنج) للتمرد ببسالة وشجاعة، وقد حصد رصاص التمرد أحد عشر شاباً من قرية واحدة لا يتجاوز عدد بيوتها المائة بيت، وفي اليوم التالي فتحت القرية عيونها على واقع حزين بين كل عشرة منازل نصبت خيمة عزاء.. وفي بعض الأحيان من البيت الواحد يسقط الشقيق الكبير شهيداً والصغير جريحاً.. ورغم تلك المأساة والفجيعة تبدت علامات الرضا والفخر والإعزاز بما قدمه هؤلاء الشباب من تضحيات لأن سواعدهم قد حصدت أرواح أكثر من (30) متمرداً في معركة غير متكافئة بين من يحمل أسلحة ثقيلة ومن له قضية مؤمن بها.. كان صراعاً بين الحق والقوة، فانتصر الحق على القوة، لكن (مورنج) ذرفت الدموع من “كالوقي” حتى “آدم محمد آدم كيجا” في نيالا على واقع الولاية المأزوم وعلى أرواح هؤلاء الشباب الذين لم يمسح حكامنا دموع أمهاتهم حتى اليوم.. ولا نملك إلا أن نردد: حليلك يا “هارون” كنت بتقش دموع الباكيات سراعاً وأنت لا تهاب الموت في الترحال والذهاب والإياب.. وكل جمعة وبلادنا بخير، رغم الفواجع والمحن!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية