شهادتي لله

"الترابي".. قصتي معه

{ تميز الشيخ الراحل الكبير الدكتور “حسن الترابي” باحترامه الدائم وتعامله المثالي مع الصحافة والإعلام، ولم يتأثر هذا السلوك الراقي بوجوده في السلطة عندما كان أميناً عاماً للحزب الحاكم أو رئيساً للبرلمان، أو بعد نزوله من مقاعد الدولة زعيماً حقيقياً للمعارضة.
{ الزعماء والسياسيون الكبار تجدهم على الدوام في حالة احترام وتعامل مع الصحافة، حتى وإن أخطأ بعضها حيناً في حقهم وحق أحزابهم، هكذا عرفنا الشيخ “الترابي”، وهكذا كان وما يزال الإمام “الصادق المهدي”، وكذا كان زعيم اليسار الاستثنائي الراحل “محمد إبراهيم نقد” الذي أقر بعد خروجه من مخبئه الاختياري أن الصحافة السودانية متقدمة على الأحزاب السياسية في الدفع بعملية التحول الديمقراطي.
{ لا أعلم أن شيخ “حسن” أرسل نفياً أو توضيحاً لصحيفة يطالبها فيه بتوخي الدقة والمصداقية، كما دأب أن يفعل محدثو السياسة في بلادنا، ولم يحدث مطلقاً أن (جرجر) “الترابي” جريدة في المحاكم، على ما أصابه من إساءات وإشانات وكذب ضار منذ العهود (الديمقراطية) وإلى زمان (الإنقاذ) في نسخته الثانية، بعد الانقلاب عليه وتجريده من السلطات نهاية العام 1999م. 
{ وهذا الفهم المتقدم لرسالة ومسؤولية (السلطة الرابعة) لا يتأتى إلا لأصحاب العقول المتوهجة والنفوس الكبار، وكما قال “المتنبي”: إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.. وكذا تطلع البدور علينا.. وكذا تقلق البحور العظام!!
{ كان “الترابي” عظيماً في حياته وعظيماً في مماته، علمنا الحرية وغرس في قلوبنا الجرأة والتجاسر وعدم الخنوع وقول الحق في وجوه السلاطين.
{ كنا محظوظين إذ امتهنا الصحافة في زمن كان فيه عراب الدولة وأمين سرها “حسن الترابي”، وكنا محظوظين إذ أتاح لنا الزمان فرصاً ولو قلائل للجلوس إلى حضرة (الشيخ) العالم، نحاوره في الشأن العام، ما كان للنشر وما كان للمعرفة.
{ كنت حريصاً جداً أن افتتح كل إصداراتنا الجديدة بحوار مختلف مع الشيخ “الترابي” ، في صحيفة (الأهرام اليوم) كان حواري في العدد الأول مع الدكتور “الترابي”، وفي (آخر لحظة) عندما لم نجده حاورنا نائبه الشيخ “إبراهيم السنوسي”، وفي (المجهر السياسي) حاورت “الترابي” للعدد الأول حول خلفاء مفترضين للرئيس “البشير”، باعتبار أنه (الشيخ) الذي ربى وقاد وعرف ميزات كل واحد من رفقائه وتلاميذه، كان حديثاً حساساً جداً لدرجة أن الزعيم الذي لم يكن يخشى أثر قولة يطلقها للإعلام، طلب استثناءً وعلى غير عادته أن يراجع نص الحوار قبل نشره في 16 أبريل 2012م!
{ غير أني لم أذهب به للمراجعة، وكتبت اعتذاري للشيخ في مقدمة الحوار، إذ لم أتعود على إعادة الحديث لصاحبه ما دام يشهد بصحة تسجيله. وقد علمت فيما بعد أن شيخنا الكبير سر بالنشر ولم يجد فيه يستوجب القلق.. على قبره واسع الرحمة سعة المسافات بين السماوات والأرضين.
{ كان موعد صدور العدد الأول من (المجهر السياسي) قد أزف، تبقت أيام.. ولم يخبرنا القيادي المقرب من (الشيخ) عن موعد تركنا له قبل أسابيع أمر تحديده مع زعيم المؤتمر الشعبي، ولكن يبدو أنه لم يكن جاداً معنا رغم إظهاره عكس ذلك، وقد علمت لاحقاً من (الشيخ) نفسه، أن الرجل لم يحدثه أصلاً بطلب (المجهر) ورجاءات شخصي الضعيف!!
{ كان لابد من فعل شيء، فأنا أؤمن بأن “الترابي” هو منطلقي للناس، وللصديق الأستاذ والصحافي الكبير “أحمد البلال الطيب” مقولة يرددها كثيراً وهو الخبير بسوق الصحافة ومبيعاتها: (الكاتب الأول في السودان دائماً إسلامي.. و القارئ الأول إسلامي)، وصدق “البلال” فاسألوا كم كانت توزع (الميدان) لسان حال الحزب الشيوعي السوداني في سنوات الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989م)، خليكم من زمن (الإنقاذ)، وكم كانت توزع (الراية) لسان حال الجبهة الإسلامية القومية وصحيفة (ألوان) المساندة لخط (الجبهة)؟! 
{ اهتمامي واختياري للدكتور “الترابي” ليكون حديثه ضربة البداية لم يكن منطلقه انتهازياً بحتاً، بقدر ما كان يستند إلى أرضية قناعة بعموم أفكاره وآرائه واجتهاداته في الحياة. 
{ تبقت أيام.. وخطتي للعدد الأول على شفا الانهيار، قررت أن اقتحم وحدي، دون انتظار مواعيد وإذن مسبق بالحوار، أخذت جهاز التسجيل وناديت على الزميل “طلال إسماعيل” المعروف بقربه من (الشعبي) و قلت له: (يلا على المنشية).
{ عند مدخل الدار رحب بنا طاقم الحراسة، دخلنا على الصالون الفسيح المعروف والمفتوح على مدار اليوم للزوار، وسواء قابلوا (الشيخ) أم لم يقابلوه، ستأتيهم أكواب (الكركديه) المثلج على جناح السرعة، ثم من بعد ذلك يسألون عن حاجتهم!
{ قلت للسكرتير المناوب: أخبر الشيخ بمقدمنا. قال لي: الشيخ سيخرج حالاً، لديه ارتباط، سيذهب لأداء واجب عزاء.
{ ونحن بالصالون الداخلي سمعت وقع أقدامه وصوته المميز يسبق طلته البهية علينا: (أستاذ “الهندي” ما كلموني لكن.. أنا ماشي عزاء.. و…).
{ كنت أعلم أنه لن يرفض ملاقاتنا.. قلت له بعد السلام: (نريد معك فقط عشر دقائق). وافق.. جلس وجلسنا.. وكانت خطتي واضحة.. وكاميرتنا بيد المصور البارع “شالكا” جاهزة.. لا أريد أن أساله عن (العك اليومي) ولا عن الحرب في دارفور، ولا عن انفصال الجنوب.. أو الحريات ولا عن تحالف المعارضة، كل أسئلتي ستتفرع من سؤال واحد: من يخلف المشير “البشير” على كرسي رئاسة الجمهورية بتحليل وتقييم أسماء يمكن أن تكون مرشحة للمقام الرفيع؟!  
{ لم يكن مقتنعاً بأن هناك خليفة سيحل محل الرئيس في انتخابات العام 2015، وقد صدقت رؤيته وأصابت تنبؤاته!! كان يرى أن “البشير” أفضل من جميع نوابه ومساعديه في الحزب والدولة والجيش.
{ أكملت الحوار الخاطف في حوالي ربع الساعة، اتبعناه بحديث جانبي لربع ساعة أخرى.. وافترقنا.
{ ووزعت ( المجهر) بحديث “الترابي” و مواد أخرى نسبة (99%) من مجموع (25) ألف نسخة في ذلك الحين، ارتفعت بعدها إلى (45) ألف نسخة، ليصيبها لاحقاً ما أصاب كل الصحف السودانية من هجمات التضييق وضغط الاقتصاد وارتفاع الدولار.. وما زالت المواجهة مستمرة. 
{ قلت للزميل “صديق دلاي” قبل يومين فقط من وفاة “الترابي”: (أنا مدين للترابي بنجاح الصحف التي شاركت في تأسيسها أو أسستها منفرداً).
{ سبحان الله.. مات “الترابي” ولم أستطع الوفاء بنزر يسير من دينه علينا..!!
{ اللهم فارحمه بقدر ما وسعت رحمتك.. لا بقدر ديونه على الناس.. من أنفق عليهم، ومن أحسن إليهم، ومن عفا عنهم، ومن علمهم، ومن دربهم، ومن قدمهم للوظائف العامة بالآلاف، ومن دعاهم لدين الله ونصرة شريعته بالملايين.
{ (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية