أخبار

خربشات الجمعة

(1)

لأننا شعب تكاثرت عليه وقائع الهزائم.. وتلاشت الأفراح وأصبحنا نبحث عن أي انتصار لإثبات الوجود مثلما.. نفرح لمجرد إشادة إعلامي صغير في قناة بائسة بالسودانيين، ونعتبره إنصافاً لنا ورداً لحقوق أهدرها آخرون.. في الأيام الماضية حققت مدرسة للصغار بولاية الجزيرة انتصاراً على طلاب من دولة جزر القمر، ونالوا كأساً قدمته قناة (جيم).. فرح السودانيون في مشارق الأرض ومغاربها.. وتحدثت الصحف عن أبطال صغار من مدرسة (محمد عبد الله) بالجزيرة فازوا على أطفال من دولة جزر القمر التي تعتبر من أفقر دول العالم وأكثرها بؤساً.. وهي عبارة عن جزيرة صغيرة تحيط بها المياه.. وتخنقها التيارات البحرية الدافئة.. الجزيرة الرئيسية التي تمثل العاصمة بها شارع أسفلتي وحيد.. ومستشفى صغير ومركز تدريب مهني أسسته حكومة ولاية “الخرطوم”، لا يزيد عدد السيارات بدولة جزر القمر عن الألف سيارة.. وقد استعانت بخبراء في تصليح السيارات من السودان.. أي ميكانيكية.. ملاعب دولة جزر القمر أكثر بؤساً من ملاعب جزيرة توتي.. وأغلب أعضاء مجلس وزراء الجزيرة درسوا بجامعة أفريقيا العالمية، فكيف نعتبر انتصار أطفال مدرسة صغار هو انتصار كبير تقام له الاحتفالات، وقد يستقبل طلاب المدرسة الفائزة بكأس (جيم) من قبل حكومتنا التي تبحث هي الأخرى عن أي انتصار بعد أن تكاثرت عليها الهزائم والخيبات.. والفشل.. ويطلق إعلامنا الوطني العنان لخياله تمجيداً لنصر تحقق بكسب العرق.. وقد ذرف الصغار الدموع فرحاً بنصر على دولة ضعيفة.. لو هزم الصغار أندادهم من دولة خليجية أو أروبية لاستحقينا نحن السودانيين الفرح.. ولكن أن ننتصر على جزر القمر في كرة القدم، فذلك بئس الانتصار.
يا سادتي لو تعلمون حينما هزمت فرنسا البرازيل في مونديال 1998م، ذرفت حسناوات البرازيل الدموع حزناً على انكسار “رونالدو” و”رونالدينو” و”ريفالدو” أمام “زين الدين زيدان” و”ديسابيه”.. وقالت البرازيل كيف نخسر من منتخب لا يجيد أفراده ترديد النشيد الوطني لبلادهم.. وقال “سوكلاري” المدرب البرازيلي الفذ خسرنا كأساً، ولكن تبقى البرازيل هي سيدة العالم.
ننتصر في السودان على فريق العاصفة التشادي.. أو بطل رواندا وأريتريا.. ونظن أننا قد بلغنا الثريا، وحينما نواجه أندادنا ننكسر مثلما انكسر فريق الخرطوم الوطني أمام فيلا اليوغندي.
(2)
من أقوال الكاتبة الجزائرية “أحلام مستغانمي” (المال لا يجلب السعادة، ولكن يسمح لنا أن نعيش تعاستنا برفاهية)، هذه الجزائرية حسناء الصحراء كلما قرأت شيئاً من ثلاثيتها الرائعة ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير، عادت بي الأشواق إلى مدينة “الدلنج” أو عروس الجبال وسنوات الصبا.. الباذخ.. وعذوبة تلك المدينة وإنسانها، و”الدلنج” التي تحدثنا الأسبوع الماضي عن حدائقها الغناء وشخوصها الذين يجملون حاضرها، مثل اللواء “محمد مركزو كوكو”، فات علينا أن نذكر انتخابات الجمعية العمومية في ستينيات القرن الماضي، وكيف كانت الأحزاب تستثمر في قيادات ورموز تلك المنطقة.. كان الوالي الدكتور “مختار الأصم” يمثل دائرة الريف الجنوبي لمدينة “كادوقلي”.. وهو من التجار الذين زرعوا الخير في تلك الأرض، وكان “مركزو كوكو” أستاذ المرحلة الابتدائية من قادة قبيلة الكواليب العريقة الذين يطلق عليهم (الكروات) لتشابه سلوكهم و(كروات) الاتحاد السوفيتي الشجاعة والصبر على القتال وتحمل المشاق.. والكواليب هم قادة جبال النوبة، وفي الإنقاذ خرج من صلب هذه القبيلة العريقة البروفيسور “خميس كجو” والبروفيسور “كبشور كوكو” إلى موقع الوزراء الاتحاديين، كانوا ولا يزالون الأقرب للرئيس “البشير” ويعتبر “كبشور كوكو” أقرب القيادات للنائب الأول السابق “علي عثمان محمد طه”، بينما يعتبر “مركزو” تلميذاً في مدرسة د.”نافع علي نافع”.. وهناك الشيخ “النور كبسور أبو صليب” مرشح الجبهة الإسلامية 1986م، في دائرة “الدلنج” الجنوبية.. وفي رواية انتخابات 1968م.
ذكرت الأسبوع الماضي أن الأستاذ “مركزو كوكو” قد نافس من اتحاد عام جبال النوبة “هبيلا أبو حمرة”.. والصواب نافس هبيلا كوكو.. لأن “هبيلا أبو حمرة” وإلى أمير الغلفان “فضل هبيلا أبو حمرة” من الذين أسسوا قواعد الجيش.. شارك في الحرب العالمية الثانية وابنه “فضل هبيلا” أمير قبيلة الغلفان، نشأ منذ الصبا (إسلامياً) تولى تجنيده للحركة الإسلامية الرموز العطبراوية كالشيخ “سعد إبراهيم”، وخاض “فضل هبيلا” الانتخابات ودخل برلمان “الترابي” الذي حله “البشير” بعد الرابع من رمضان، وكان “فضل هبيلا” نائباً محترماً.. يجهر بالحق في وجه السلطان، لذلك لم يعمر طويلاً في السلطة وكل السلاطين والملوك تستريح نفوسهم لمن يبحث لهم عن المحاسن ويضفي عليهم الألقاب، وحتى الملك “عبد العزيز آل سعود” مؤسس الدولة السعودية الحديثة كان يحب الإطراء.. وقد ذكر الأديب “الطيّب صالح” في كتاب في رحاب الجنادرية وأصيلة أن “أمين الريحاني” كتب رسالة للملك “سعود” قال فيها أنت أول قائد عربي منذ “عمر بن الخطاب” يوحد جزيرة العرب، فوقعت الرسالة في نفس الملك “سعود” رغم أنها دعوى عريضة، إذن أين يذهب “عبد الملك ابن مروان”.. وأين ذهب “هارون الرشيد”.. وقادة جبال النوبة من الرجال الذين ذكرتهم، هم من أمسكوا بأعنة التاريخ كما يمسك الملاح الماهر بأعنة الرياح في عرض البحر.. و”أحلام مستغانمي” تحب إطراء النقاد.. وتضيق ذرعاً بالمشنفين لما تكتب مثل الناقد “محمد ينيس” والناقدة  المصرية “أمينة الماجدي” لو أن هذه الجزائرية التي ولدت في منطقة (القبائل) زارت “الدلنج” في فصل الخريف.. وجلست على ضفاف خور أبو حبل وهو يهدر بالمياه المتدفقة من الجبال الغربية، لطرزت بحروفها الندية عن تلك المدينة الساحرة، ما لم يكتب عن السودان قديماً وحديثاً، ولكن لنا برجال مثل الوزير المغربي “محمد بن عيسى” الذي جعل من قرية (أصيلة) شيئاً مذكوراً في التاريخ.. ومثل “عبد العزيز التوبجري” الذي نحت في صخور مكة وشعاب جبالها ليكتشف المحدثين عمق الحضارة الإسلامية والعربية.. لكن الحرب في جبال النوبة تقتل كل زهرة تتفتح وتطأ كل شجرة مثمرة تنبت في الأرض الخصبة.. بيد أن الجنرال “مركزو” يزرع ويحصد وهو واثق جداً أن غداً أفضل من اليوم وما خاب من يزرع المانجو.. والتفاح وحتى العنب والتين والزيتون، وحينما كان “مركزو” يعرفنا بشجرة التين والزيتون.. سأل أحد عرب البقارة عن (طور سنين) فانتهره الأخ “ياسر مختار” قائلاً ما تفضحنا مع النوبة طور سنين جبل في جزيرة العرب وليس فاكهة تزرع.
(3)
كل شيء في الحياة متغير.. تبدلت الأسماء وسمات الناس وحتى الإحساس بالجمال تغير.. وطالت خارطة الشعر والغناء انعطافات كبيرة.. حتى الأذن التي تصغي للغناء في الستينيات وسبعينيات القرن الماضي غشتها الحداثة، وحينما كان “زيدان إبراهيم” يشدو برائعة “عبد الوهاب هلاوي”..
وتتبدل مع الأيام حرام يا غالي تتبدل
ونتقابل بدون كلمات ولا لمسة حنان تسأل
كان الوجدان يتمايل طرباً ويتوه العشاق مع حروف “مهدي محمد سعيد” و”إسحق الحلنقي”.. واللواء “عوض أحمد خليفة” الذي كتب..
بالي مشغول يا حبيبه ليك أعود والقاك متين
والحبيبة التي ذكرها الجنرال ليست السلطة ولا الجاه، وإنما حسناء من حسناوات “أم درمان” قبل أن تغشى الساحة الفنية أغنيات تسمو بالمرأة إلى حب الروح والقيم والمعاني التي جسدتها أغنيات الراحل “مصطفى سيد أحمد” وهو ينأى عن الحب الحسي ويغوص في أعماق الحب المعنوي، حيث تغنى برائعة “عبد العال السيد”
من بعد ما عز المزار
والليل سهى وملت نجومه الانتظار
والشوق شرب حزن المواويل وانجرح خاطر النهار
وبقيت أعاين في الوجوه وأسأل عليك وسط الزحام قبل أتوه
رحم الله “مصطفى” الفنان الذي سكب في عصارة قلب الأغنية السودانية معانٍ جديدة وأفكاراً مورقة.
وكل جمعة والجميع بخير

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية