شهادتي لله

بين (السودانيين) و(الهنود).. الفرق شاسع!!

{ في مكتب صغير لا يسع أكثر من طاولتين، جهاز كمبيوتر وضيفين، يقع مكتب (طيران الاتحاد) داخل مبنى تجاري بمدينة “جيناي” جنوب شرق دولة “الهند” التي يصنع شعبها المستحيل، يكابد الفقر، المرض والانفجار السكاني الملياري، ورغم ذلك يعملون بكفاح وجدية وإخلاص، لا مساحة عند السادة (الهنود) للهزار والونسة بالموبايلات وبدونها أثناء الدوام!!
{ إنه حقاً شعب عظيم صاحب حضارة ويستحق الاحترام.
{ مكتب شركة الطيران الإماراتية يقع داخل شقة موزعة على عدد من الشركات الأخرى من ضمنها (طيران الاتحاد) مع صالة استقبال مشتركة، سجلت اسمي على دفتر الاستقبال المشترك، ودلفت إلى (المكيتب) من مكتب، على طريقة تصغير السودانيين للأشياء، قابلتني موظفة (هندية) وحيدة لا ثاني لها، طلبت منها تغيير الحجز لأنني لم ألحق بالطائرة المتجهة لـ”أبو ظبي” ومنها للخرطوم، ثم طلبت تصعيد التذكرة إلى درجة (البزنس) إذا كان بالإمكان، لأنها رحلة طويلة وشاقة، وأنا أصلاً لا أطيق (الحبسة) في مقاعد الطائرات بالرحلات الطويلة إلا مضطراً.
{ لم تسألني سوى عن تاريخ المغادرة الذي أرغب فيه، ثم أنجزت مهمتها خلال (5) دقائق لا أكثر بعد أن أعلمتني بالمبلغ المطلوب للإجراء، وهو تقريباً ذات المبلغ الذي دفعناه في الخرطوم في رحلة يوم (11) فبراير الجاري، ورغم ذلك كان التصعيد إلى أسفل، لا درجة أولى ولا (بزنس) ولا يحزنون!!
{ بعد أن تسلمت المبلغ- لاحظ هي تعمل وحدها لا يساعدها سوى عامل (مراسلة) يرابط عند الباب مثل جنود حراسة القصور الرئاسية، ما أن تستدعيه إلا ويأتي مهرولاً ثم يقف مؤدباً مطأطئاً رأسه أمامها إلى أن تطلب منه الانصراف!! (مش زي العمال والموظفين عندنا، ممكن المدير ولّا حتى الوزير يجي ماشي جنبهم تلقاهم قاعدين خاتين كراع في كراع ومرات يرفعوا كرعينهم فوق التربيزة.. ياخ بلا مدير بلا لمة.. يعني ح يعمل لي شنو.. الرزق عند الله).. هذه هي مفرداتنا وثقافتنا المدمرة!!
{ بعد أن طبعت الموظفة (الما خمج) التذكرة، قامت من مقعدها لتقف ناحيتي (هنا البتقوم ليك دي منو؟)، قامت تحمل التذكرة لتوضح بالقلم البارز مواعيد الحضور للمطار والإقلاع من “جيناي” ثم الوصول لـ”أبو ظبي” ثم المغادرة منها إلى “الخرطوم”، وضعت اللون الأصفر على مواضع المواعيد (في تذكرة الخرطوم لم يحدث هذا وهو من أبجديات عمل تذاكر الطيران)، ثم سألتني هذه السيدة الهندية الرصينة: (هل تحتاج لسيارة لتقلك من فندق “Westin” – هو أحد فنادق سلسلة “ماريوت”؟ ولأنني لم أتعود في “الخرطوم” على أن ركاب درجة رجال الأعمال تأتيهم سيارات من شركة الطيران إلى مكاتبهم أو بيوتهم لتقلهم إلى مطار الخرطوم الدولي، فإنني سألتها عن قيمة الخدمة، فقالت: (لا.. هي من ضمن خدمات مكملة لتذكرة البزنس).. وقد كان.. فقد وصلتني رسالة (sms) على هاتفي صباح يوم السفر تفيدني بأن السائق سيكون بانتظارك أمام الفندق، عند الثانية عشرة وعشرين دقيقة ليلاً!! لماذا لا يحدث هذا هنا في السودان؟!
{ لماذا لا تقوم موظفة (واحدة) لا (تصر وجهها)، وعلى الرحب والسعة والابتسامة تعلو محياها مع جدية فائقة بإنجاز المهام في شركاتنا العامة والخاصة؟!
{ مكتب طيران الاتحاد بشارع البلدية بالخرطوم لا مقارنة بين فخامته وتجهيزاته ومساحته التي قد تساوي (20) مرة مساحة المكتب الذي قصدته في “جيناي”، بينما الموظفة (الهندية) التي قامت بالمهمة على أكمل وجه وبأقل تكلفة تعيش في بيئة أشد فقراً ومعاناة من معظم سكان الخرطوم، البصات في “جيناي” هي تلك التي كنا نستقلها في مواصلات العاصمة في ثمانينيات القرن المنصرم، والمساكن ليس من بينها عمارات فارهة سوى المستشفيات والفنادق و(المولات) والمطار، لا فيلات بعدد لافت،  ولا منازل أرضية مبنية على أحدث طراز كما هو الحال حتى في الأحياء الطرفية بالخرطوم مثل “أم بدة” و”الحاج يوسف” و”أبو سعد”، رغم ذلك الفرق شاسع في الإنجاز وسرعة التطور وقوة الاقتصاد بين الهند والسودان!! الهند هي ثالث أقوى اقتصاد في آسيا بعد الصين واليابان، وتحتل المركز السابع عالمياً.
{ أما نحن فاقتصادنا اقتصاد بيوت بصوالين حدادي وعمارات.. استهلاك طوب وأسمنت وسيخ وسيراميك وستائر، وعربات فارهة كما يفعل أمراء وأثرياء الخليج، ومزارع غير منتجة، وتجارة ومضاربات في الدولار، وحكومة شغالة جبايات وزيادة كل يوم في رسوم الخدمات والسلع الأساسية بما فيها موية النيل.. أنا ساكن على بعد مائتي متر من النيل وفاتورتي بقت (85) جنيهاً.. بالله ما بتخجلوا يا مجلس تشريعي وحكومة ولاية!! دا اقتصادنا عامل كدا!! طيب ما نجيب (هنود) و(صينيين) يديروا لينا البلد ما دام ناسها ما قادرين!!
{ ولهذا فإنني عندما أخذت نموذج موظفة بشركة طيران في السودان، لا أتشفى أو أمارس الانتقام، ولا أتحدث عن حالة فردية معزولة، لكنني أستشهد بها- وهي طريقتي في طرح القضايا العامة من مداخل خاصة- للاستفادة منها في تشريح أزماتنا سواء في ما يتعلق بالكادر البشري أو غيرها من المشكلات. وبالمناسبة برامج تطوير وتنمية الكوادر البشرية التي نشط فيها مؤخراً عدد كبير من مراكز التدريب السودانية مجرد (تجارة) واستخدام للعلاقات العامة بهدف التربح، للأسف الشديد.
{ تطوير الكادر البشري (السوداني) لا يتم بدورات (3 أيام و5 أيام وأسبوعين)، لأن أساسنا كمجتمع في تقدير قيمة العمل متآكل وخرب.
{ بناء وتطوير الكادر البشري السوداني- في رأيي- يبدأ من (رياض الأطفال) والبيوت، ثم مدارس الأساس ثم الثانويات، بغرس مفاهيم تربوية حول قيم العمل، الإخلاص، التفاني في الواجبات، الصدق والأمانة، وهذا ما لا يستطيع مركز تأهيل أن يوفره لفرد خلال أيام معدودات عبر محاضرات وورش.
{ بلادنا تحتاج لثورة تعليمية وتربوية من مرحلة الأساس، ولكن كيف يكون ذلك وأطفالنا يدرسون في المدارس الخاصة مناهج سعودية وأردنية وبريطانية، بل يوغندية في مناطق التمرد بجبال النوبة!! بالتأكيد النتيجة ستكون أجيالاً بلا هوية.. بلا ثقافة محددة.. بلا قيم تربوية جامعة ومميزة.
{ سنظل نلبس (الجلابية) فيعرفنا العالم بأننا سودانيون، وحتى الجلابية في طريقها إلى الانقراض مقابل (البرمودا) عند بعض الشباب، حتى في صلاة (الجمعة)!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية