الفاروق العادل
فهمي المتواضع لفكرة الحاكم والمحكوم أو الحاكم والرعية فهم بسيط، ومتواضع، وأنا على قناعة تامة أنه لا يختلف كثيراً عن فهم العلماء الذين سبروا غور فلسفة الحكم في الأنظمة الحاكمة بمسمياتها المختلفة.. فالحكومة هي عبارة عن مجموعة قليلة العدد في مجتمع ما يديرون دفة الأمور في بلد ما ويهدفون إلى غاية هي توفير العيش الكريم لأفراد ذلك المجتمع.. وإدارة دفة الأمور هذه تتطلب من أفراد المجتمع التنازل عن كثير من حقوقهم، في مقابل أن تحقق الحكومة قدراً عالياً من الرفاهية والأمن والسلام والتقدم، والدول العظيمة التزمت حكوماتها بتحقيق الأهداف والمرامي المنشودة للمحكومين.. حينما كنا صغاراً كان يُرعبنا رجل الشرطة (البوليس) باعتباره القوة المناط بها وضع حد للمتفلتين والناشزين عن بقية أفراد المجتمع، ويكفي أن ينتهرنا عم إبراهيم السواري ذو الثلاثة شرائط لنذهب إلى المنزل ونترك اللعب للمذاكرة، نهرع (جري) للمنزل ونخرج كتب المدرسة للمذاكرة!! ترى لماذا اهتزت هيبة رجل الشرطة في زماننا هذا؟!
أتاحت لي الظروف وأنا صبي يافع زيارة قرية (الشّقيق) التي تقع شمال غرب مدينة (الدويم)، مدينتنا بالنيل الأبيض، ذهبنا إليها في مهمة رسمية كلفنا بها مدير التعليم بمحافظة الدويم ونحن طلاب لم ننه المرحلة الجامعية، والمهمة تتلخص في إجراء مسح نحصر فيه عدد الأطفال في سن الدراسة الأولية ولم يدخلوا المدارس.. استغرق عملنا مدة شهرين خرجنا فيها بنتائج ممتازة، وقد ساعد بحثنا في حصر الأماكن التي أنشئت فيها مدارس أولية في وقت لاحق..
أذكر ونحن في السوق الأسبوعي بقرية (الشقيق) نعبئ استمارات بحثنا الذي نستقي معلوماته من المواطنين، تعالت صيحات (الزول كتل الزول.. الحقوا يا ناس!!) واشرأبت الأعناق نحو شاب في مقتبل العمر ممسكاً بسكين ملطخة بالدم، وتحت أرجله شاب آخر يسبح في بركة من دمائه وقد فارق الحياة.. وانفلت الجاني من زحمة من حاولوا الإمساك به وركب ناقته مهرولاً بها ناحية الشمال من السوق، وبعد دقائق تعالت الأصوات والصراخ والعويل: (“…….” كتل أمو!! فلان كتل أمو وود عمو)!!.
دارت هذه الأحداث في وقت وجيز، والدهشة تعقد ألسننا ونحن في معية العمدة (علي عبد الله جاد الله) كبير تلك الناحية والرجل مهيب الطلعة وله بسطة في الطول والبنيان وحوله عدد من أتباعه ومعاونيه.. وهنا صاح العمدة: “يا جبارة أمشي جيب الولد المجنون ده!!”، والولد المجنون هو من ارتكب جريمتي القتل قبل قليل.. وقبل أن يصل (جبارة) إلى الجاني إذا بناقة تقبل مسرعة نحو شجرتنا أو بالأحرى شجرة العمدة (علي)، بعدها ترجل الشاب من ناقته وثيابه ملطخة بالدماء حاملاً سكينه أداة جريمته..
– “أبوي العمدة هاك السكين وأنا كتلت ود عمي وأمي.. وحرم لو عمي جا بكتلو بي سكيني دي!!” وجلس الشاب القرفصاء قبالة العمدة (علي) وتحلق الناس حول شجرة العرديب الظليلة يرقبون المشهد وما يسفر عنه الموقف.
– (وكتلتهم ليه يا مجنون؟) سأله العمدة..
– (كتلتهم وخلاص!!).
– (ما خلاص!! ورينا السبب؟!).
– (ما بكلمك قدام الخلق.. بكلمك براك أبوي العمدة!!).
وهنا نهض العمدة من عنقريبه الهبابي وأخذ الجاني من يده وأخذه إلى شجرة أخرى وانفرد به، ومكثا زهاء نصف الساعة ليعودا إلى الشجرة الكبيرة.
– (يا جبارة امشي نادي فلان وفلان وفلان يجوا هسه!!).
وبعد قليل جاء النفر الذين طلبهم العمدة وبدأت أسرع محاكمة جنائية.
والقصة أن العمدة سرد وقائع جريمتي القتل كما سمعها من الجاني والشهود، التي فحواها أن المجني عليه (عيّر) الجاني بأن أمه ترتكب الفاحشة مع عمه.. ولم يكن محقاً.. فأرداه قتيلاً بطعنات من سكينه، وذهب مسرعاً إلى أمه فأزهق روحها بنفس السكين.. المهم.. انبرى العمدة مبتدئاً حديثه بـ(إذا جاءكم فاسق بنبأ…. الخ الآية الكريمة)، وأفاض بأن الجاني والمجني عليه وعليها أهل ورحم ودم ولحم وأنتم أولياء الدم، أنا أمرتكم تعفوا.. وحكمت على الجاني بخمس جمال يديها لي عمو.. وقوموا شوفوا شغلكم!!).. هي ساعات قليلة منذ وقوع الجريمة وإصدار الحكم!! سردت هذه القصة لأدلل على فلسفة الحكم.. فأهلي بـ(الشقيق) ارتضوا حكم كبيرهم راجح العقل، وتنازلوا عن أشياء ما كان لهم أن يتنازلوا عنها لولا تواضعهم واتفاقهم على مجموعة قيم وأعراف رسخت مفاهيمها لديهم منذ أمد بعيد، فأصبحت ملزمة لهم جميعاً.. ومهما أفضنا بتعريف أنظمة الحكم الديمقراطي لا نجدها تختلف عن هذا التفسير البسيط السابق الذكر.. وبرغم أن مرجعيتنا كمسلمين هي كتاب الله وسنة رسوله، إلا أن الأمر أشكل علينا، فصرنا نلبسه مفاهيم مشوبة بالكثير من مسببات التناقض التي تقلب حال الحاكم والمحكوم رأساً على عقب، إذ من المفترض أن يلتزم الحزب الذي يختاره معظم الشعب حينما يصل إلى سدة الحكم بتنفيذ البرنامج الذي طرحه للشعب دون إنقاص، عندها يكون الحاكم قد أوفى بما التزم به.. لكن الذي يحدث في واقع الحال أن أحزاب المعارضة التي من المفترض أن تكون شريكاً أصيلاً للحاكم بإرشاده وتقويمه وإبداء النصح له، حتى يتمكن من إدارة دفة الحكم بنحو يقود المحكومين إلى بر الأمان والطمأنينة، وتلبية حاجاتهم، لكن الأمر أبعد من تحقيق هذه الأهداف التي لا خلاف حولها، ويبدأ الصراع الأزلي بالنسبة لكل أنظمة الحكم الفاسدة بالسعي إلى تحقيق الأهداف الذاتية لأفراد الحزب أو من يدورون في فلكهم، وتبدأ تلك التناقضات في التفاعل إلى أن ينفجر الأمر بإزاحة الحكومة جبراً أم اختياراً.. والتاريخ يرصد لنا نماذج لحكومات وحكام أصبحوا مضرب الأمثال، ودونكم الفاروق (عمر بن الخطاب) الذي اتقى الله في المحكومين ونفسه، وليتنا قررنا تدريس سيرته هو والعادل (عمر بن عبد العزيز) لأبنائنا في مراحل الدراسة كافة، عدل (الفاروق) الذي أودى بحياته من قبل الذين لا يريدون العدل للإنسان.. وليتنا قرأنا سيرته التي كتبها المفكر العربي الكبير (العقاد) في كتابه “عبقرية عمر”، وتلك المقولة عن (الفاروق): (حكمت فعدلت، فأمنت فنمت)، والقصة المعروفة حينما جاءه وفد رفيع المستوى من بلاد فارس للتشاور مع أمير المؤمنين في شأن سياسي، باعتباره الحاكم الذي في عهده انتشر الإسلام، ودانت تحت رايته العديد من الدول.. سأل رئيس الوفد عن الرجل الأول في أقوى دولة وقتها، فردوا عليه: “ذلك الرجل النائم تحت ظل الشجرة هو أمير المؤمنين”. وقصة المرأة التي استوقفته لتسأله من أين أتى بالزيادة في قماش جلبابه، المرأة المواطنة البسيطة لها الحق في سؤال أمير المؤمنين عن بضعة أذرع زائدة في جلبابه، لأن الفاروق كان طويلاً مديد القامة ولو لبس حصته من الأذرع المخصصة للبالغين من رجال المسلمين من بيت المال لكان جلبابه قصيراً جداً، وحينما انتهر بعض (المطبلاتية وحارقي البخور للحكام) المرأة وزجروها وكادوا أن يصفعوها، قال لهم الفاروق: “اتركوها فمن حقها سؤال من أين لي الأذرع الزائدة من القماش!!”، بعدها نادى الخليفة العادل ابنه (عبد الله) وقد كان قصير القامة وأوقفه بقربه وقال للمرأة المحتجبة: “ما زاد من قماش أعطاني له عبد الله فزدت به جلبابي!!”.. لله درك أيها (الفاروق)، أتتنا قصتك مع المرأة لتعلمنا أنه لا يحق للحاكم أخذ أي مال من أموال المسلمين بغير مقتضى، وأن الحاكم ملزم بالإجابة الفورية عن أي سؤال مفاده من أين له هذا المال؟! وأن يبرئ ذمته المالية وإلا أصبح غير جدير بأمانة التكليف والحاكمية.. أربعة عشر قرناً ظللنا نتراجع يوماً بعد يوم عن قيمة العدل، وعن تعاليم ديننا الذي إن تمسكنا به فلن نضل أبداً، وما يحدث في واقعنا ظلم بيّن لأنفسنا ولأوطاننا، فالظلم يقتل همة الإنسان ويقعده عن العمل والبذل والعطاء، فنهمل قدراتنا وما منحنا الله له من خير، ولا نثمّن أنفسنا ولا النّعم التي حبانا الله بها، ونلعن أنفسنا وأقدارنا، ونعيب زماننا والعيب فينا..