* "وردي" ولعبة السياسة.. عارض الأنظمة وغنى لها.. أسئلة تركها ورحل
قبل الاحتفال بذكرى رحيله الرابعة بعد أيام
* “فاروق أبو عيسى”: لم آخذ عليه موقفه مع مايو وعبت عليه اقترابه من الوطني بعد مواقفه المشرفة مع المعارضة
*محمد الشيخ مدني: لا يستطيع أي شخص ربط فن “وردي” بانتمائه السياسي..!
* “د. أزهري التجاني”: السياسة تفسدها الاجتماعيات ولا يؤخذ على “وردي” صفاءه مع الوطني..!
تقرير – هبة الله صلاح الدين
ظل الموسيقار “محمد وردي” الذي تحل علينا ذكرى رحيله الرابعة بعد أيام قلائل، ظل في حياته وبعد رحيله الشخصية الأكثر إثارة للجدل والأكثر حضوراً في ذاكرتنا الجمعية سياسياً قبل أن يكون فنياً، فـ”وردي” بعد أن حصل على لقب فنان أفريقيا الأول يصعب على أي صوت انتقاد مشروعه الفني وتجربته الفنية الفخيمة التي حار أكبر النقاد في إيجاد وصف لها غير أنها تجربة مبدع لن يتكرر في تاريخ السودان، في المقابل تجربة “وردي” السياسية ستظل خاضعة للنقد والتحليل لاسيما أن تأرجح الواقع السياسي في السودان أرخى بظلاله على تجربة “وردي”، فقراءة سريعة لمشواره السياسي والأيديولوجي يكشف للمحلل هذه الحقيقة من تعدد مواقف الراحل، فتارة تجده مع نظام مايو تارة أخرى ينقلب عليها فيعتذر قائلاً إنه ضلل الشعب السوداني.
وقبلها يغني لانقلاب “عبود” ثم يتراجع بدعوى أنه لم يكن ناضجاً سياسياً بما يكفي بحكم تكوينه الريفي البسيط وصغر سنه إلا أنه بعدها يعلن تعلم عدد من الدروس في الوعي السياسي من اليسار السوداني، واعترف هو بنفسه بذلك في إحدى حواراته، ثم هناك دعمه لمشروع السودان الجديد للحركة الشعبية ووقوفه بجانب حملة سلفاكير في العام 2005 وسفره خصيصاً إلى “جوبا” لحضور الانتخابات لتتردد الأنباء بعدها عن صداقة كبيرة تجمعه بوزير الدفاع “عبد الرحيم محمد حسين” جعلته الأقرب إلى القيادة بالحزب الوطني الذي ظل “وردي” يعارضه منذ استيلائه على السلطة في يونيو 1989م.
تسليط الضوء على “وردي” وخفايا مشروعه السياسي تظل محاولة يشوبها كثير من النقص لصعوبة تلمس تفاصيل أيديولوجيا هذا الفنان المناضل بداية من موقفه المعارض لقرار تهجير أهله وعشيرته من مدينة “حلفا” وكانت هذه أولى الخطوات في عتبة صياغة “وردي” المعارض، حيث تم اعتقاله 17 يوماً في عام 1961م بعد خروجه في مظاهرة أهالي وادي حلفا أكد “وردي” عدم تأثره كثيراً بالقضية السياسية في أغنياته التي نظمها وغناها باللغة النوبية. الاستثناء قصيدة نظمها عام 1968م التي هجا فيها بعض الأحزاب السياسية الذين خدعوا المواطنين بمعسول الكلام، فقال (سوكّا وير كيتّي…سوبو كي ريتي) وهي تعني “ما دمنا كلنا ننتظر الهلال، فغداً سيكون بزوغه إذا لم يبزغ اليوم… نحن أبناء الفلاحين والغلابى والمعوزين.. ونساؤنا ينجبن باستمرار لتستمر دورة الحياة.. لذلك سيظهر الهلال).
* “وردي” واليسار
في الحوار الشهير الذي أجراه الكاتب الصحفي “معاوية يس” مع الفنان الراحل “محمد وردي” بـ”لندن” سأله متى وكيف بدأت صلتك باليسار، وما هي ملابسات العلاقة التي جمعتك بالزعيم الشيوعي “عبد الخالق محجوب” الذي أُعدم إبان حكم الرئيس “جعفر نميري” عام 1971م، أجاب “وردي” موضحاً أن أول عهده باليسار كان قبل انتقاله إلى الخرطوم عبر زميل دراسة يسمى “محمد سيد محمد”، وقد عمل (مَحْوَلْجِي) في رئاسة السكك الحديد في عطبرة وكان يواظب على مكاتبتي، ويذكر لي الحزب الجديد، الطبقة العاملة، المزارعين، وألفاظاً من هذا القبيل. وكان “محمد سيد محمد” عضواً في الحزب (الشيوعي السوداني) منذ تأسيسه عام م1946. وتابع “وردي” موضحاً: كنت بطبعي شخصاً متمرداً، وكنت أرفض الكثير من القيم التقليدية السائدة في عصرنا، وكانت تثيرني أشياء صغيرة، منها مثلاً أن جدي والد أمي كان عمدة القرية، وكنت أفطن سريعاً لسعة حاله وضيق يد الآخرين، وهم السواد الأعظم من سكان القرية. بلدتنا جزيرة، ومع هذا فإن جدي العمدة، وهو الذي يحكم الجزيرة، يملك نصفها، بينما تملك النصف الآخر بقية الأهالي كلهم، أشياء لم تكن ترضيني مطلقاً.
كذلك قبل إعلان استقلال السودان، كان أبناء بلدتنا ممن نقلوا للدراسة في ثانويتي (حنتوب) و(خورطقت) يعودون في عطلاتهم ليبثوا فينا وعياً جديداً. لم أقرأ أي نشرة أصدرها الحزب الشيوعي آنذاك، لكني كنت معجباً للغاية بجريدة (الصراحة) التي كان يصدرها “عبد الله رجب”، كانت تتعاطف مع قضايا اليسار السوداني، وكنت أطلع عليها بانتظام.
في عام 1948م زرت مصر وقابلت عمي “عبد الوهاب حسن وردي”، وأحد أبناء المنطقة اسمه “سيد طه شريف”، وكانا من مؤسسي الحركة الديمقراطية التحررية الوطنية (حدتو).. كما أن جدي الأول الذي رباني وزوجني ابنته زوجتي الأولى “ثريا” كان قد عاصر انتصار (البلاشفة) عام 1917م في “روسيا”، وكان بحكم اطلاعه على الإنكليزية والفرنسية والعربية محيطاً بهذه الأشياء، وكان يؤانسني فيها كثيراً.
تغنى “وردي” مدحاً في عهد انقلاب 17 نوفمبر 1958م الذي تزعمه الرئيس “إبراهيم عبود”. كان النظام في مقتبل عهده، وكان “محمد وردي” في مقتبل حياته الفنية، بل كان صغيراً أيضاً ليتراجع بعدها عن موقفه تجاه “عبود” باعتبار أنه لم يكن الحكم المثالي إلا أنه عاد وأوضح بأنه مدين لهذا النشيد، وأنه تعلم منه درساً في الوعي السياسي، خصوصاً من اليسار السوداني.
* يا فارسنا وحارسنا
وتغنى لمايو أيضاً (يا فارسنا وحارسنا لينا زمن بنفتش ليك، جيت الليلة كايسنا) لشعوره بأن “نميري” في بداية عهده كان معبراً عن قضايا المواطن وما لبث أن انقلب عليه، معتبراً أن “نميري” حاد عن جادة الطريق وجعل ينشد (ماك فارسنا ولاك حارسنا)، عندما اخـتلـف اليـسـار مع مـــايـو، وقـامت حـركة (هـاشـم العـطا) التصـحيـحية، كـان نصـيـب “وردي” الـسـجن والاعـتقال لزمان طـويل بسـجن كـوبر، خـصـوصاً، وأنه كان قـد سـخر من “نـميـري” بأغنية تقـول كـلماتها:
راكــب هــنتـر وعـامل عنتــر!! وربـط الشـعـب كـلمات الأغنيتين، فـجاءت عـلى الـنحـو الـتالـي (يـا حارسـنا ويـا فـارسـنا، ليـنا زمـن بنفـتش ليـك.. جيـتنا راكـب هـنـتر وعـامل عـنتــر).
في حوار سابق أجريته مع السياسي المثير للجدل الراحل “غازي سليمان” سألته عن تحليله لتبدل مواقف “وردي” السياسية وحقيقة اقترابه في آخر أيامه من الوطني، أجابني قائلاً (وردي لم ينتم للإنقاذ ولكن تعايش معها). يقول القيادي “فاروق أبو عيسى” لا أخذ عليه هجاءه لمايو بعد أن تغنى لها في البداية، فمايو التف حولها في البداية كل التقدميين والشيوعيين واليساريين والديمقراطيين، فما طرحه “نميري” في بداية حكومته كان ملبياً لكل طموحات أهل السودان، ولكن عندما تراجع نميري انفض من حوله الجميع ومن ضمنهم الراحل “محمد وردي”، ومضى “أبو عيسى” في حديثه قائلاً: ويكفي “وردي” تغنيه لأكتوبر الأخضر ومواقفه كمعارض في حركة مقاومة تهجير النوبيون، يقول “أبو عيسى” “وردي” في شبابه كان مصادماً ونقابياً في نقابة المعلمين، إلا أن موقفه كمعارض لتهجير أهله النوبيين ونضاله الصدامي في هذه القضية أبرزه كقائد سياسي وسط أهله، فارتبط بعدها في وجدان الشعب السوداني معارضاً شرساً، فـ”وردي” لم يولد فناناً إنما تطور تطوراً طبيعياً كما تتطور الأشياء، وعندما أصبح فناناً من الدرجة الأولى وأخذ الفن كل اهتمامه ووقته ولكل إنسان قدرات محدودة أصبح عندها الفن خصماً على السياسة في مشروع وردي، فتراجع الحديث عن “وردي” السياسي إلى “وردي” الفنان وهذا يكفي في اعتقادي، وتابع “أبو عيسى” على الرغم من أن هجرة “وردي” إلى خارج السودان كانت باعتباره جزءاً من منظومة المعارضة، إلا أنه لم يلعب وقتها أي دور قيادي في حركة التجمع الديمقراطي فقط كان قريباً من القيادة، إلا أنه لم يمارس أي دور سياسي كمعارض في تلك الفترة، وأضاف “عيسى” انتقد كثيرون قرار “وردي” في العودة إلى السودان، إلا أنني اعتبره أمراً طبيعياً فهو رجع إلى البلاد كغيره من قيادات المعارضة، وعن ما تردد عن اقترابه من القيادة بالحزب الحاكم يقول “أبو عيسى” كثيرون أخذوا عليه هذا الموقف وبحدة شديدة، وعبت عليه أنا أيضاً اقترابه من المؤتمر الوطني بعد مواقفه المشرفة مع المعارضة، وأعتقد أن “وردي” فشل في عمل توليفة مابين موقفه كمعارض وعلاقته بالسلطة وهي التوليفة التي أحدثناها كمعارضين للنظام لإيجاد مساحة بيننا وبينه. وختم “أبو عيسى” حديثه رغم كل تلك الأشياء، إلا أن “وردي” حمل جثمانه كل الشعب السوداني باختلاف ألوان طيفهم السياسي.
* حقيقة لا يختلف حولها اثنان
وزير الإرشاد والأوقاف السابق القيادي بالمؤتمر الوطني “د. أزهري التجاني” يقول على الرغم من أن طبيعة الأشياء تأخذ في الصعود والانحدار وتارة في الثبات، إلا أن الراحل “محمد وردي” كان خطاً تصاعدياً ولم يشهد منحنى فنه انحداراً، وحتى خطه السياسي كان فيه ثبات من حيث انحيازه للقاعدة العريضة من الشعب السوداني ومصالحه. وعن اقتراب “وردي” للحزب الحاكم في آخر أيامه يقول “التجاني” لا أعيب عليه ذلك، فطالما كانت هناك دوماً نقطة التقاء ما بين المبدعين المعارضين وبين السلطة، فطبيعة الشعب السوداني لا يوجد خلاف دائم، فالحكومات تفتح مراراً أبوابها للمعارضة التي مهما كانت عنيفة، فهي تلتقي بالحكومات في أول الطريق أو نهايته ومنتصفه، يتابع “التجاني” حديثه – الشعب السوداني ارسخ القيم فيه هي القيم الاجتماعية والسياسة تفسدها الاجتماعيات.
القيادي بالمؤتمر الوطني “محمد الشيخ مدني” يقول لا أعتقد أن الفنان بأي حال من الأحوال يمكن أن يكون سياسياً، فالفن ليست له حواجز أو حدود سياسية أو جغرافية ولا يستطيع أحد أن يربط فن الراحل بانتمائه السياسي، ومضى “مدني” في حديثه قائلاً: عندما ظهر “وردي” وتغنى بأغنية (الليلة يا سمرا) كنا طلاباً في المرحلة الثانوية وتخوفنا حينها من عدم تمكنه من إثبات وجوده بين جيل العمالقة في تلك الفترة “أحمد المصطفي” و”عثمان حسين” و”حسن عطية”، ولكنه خيب ظنوننا وسرعان ما فرض نفسه في الساحة الفنية بقوة، فـ”وردي” فنان حقيقي ويستحق لقب الإمبراطور.