أخبار

كُنتِ فجراً باسم النور دنا

وأيضاً في بيروت التقيت بالشاعر السفير الوزير “غازي عبد الرحمن القصيبي” وهو الشاعر الذي خاطبه الشاعر “نزار قباني” في الغلاف الأخير من ديوانه (يا فدى ناظريك) قائلاً: (يا حبنا غازي، انزع عنك ملابس الدروشة، والتواضع، والدبلوماسية.. فأنت قمر الشعر الذي ما زال يمطر الياسمين علينا منذ أن كان يسكن في (شقة الحرية)، فإلى أين تهرب منا، ومن الشعر، ومن الحرية. أنت أخطر مجنون في (عصفورية) الشعر التي نسكنها ولن نطلق سراحك أبداً).
و”غازي القصيبي” أشهر سفير أثار ضجة دبلوماسية في تاريخ الدبلوماسية، لأنه كان سفير المملكة العربية السعودية بلندن، ولأنه شاعر، وشاعر مقتدر ورصين القوافي، وتسبق روح الشاعر رزانة الدبلوماسية واستتارها تحت الألفاظ الرمادية، فقد جهر لسان الشاعر بقصيدة فريدة تُمجد فدائية فلسطينية وتتغزل في فعلها الرشيد وتُعلي المقاومة وتشيد بها منهجاً ومقصداً، ولكن!!
يبدو أن على فم الدبلوماسي (قِفْل) مفتاحه عند إدارة الدولة التي يعمل فيها السفير، فجاء احتجاج حرام من السفير الإسرائيلي لدى حكومة صاحبة الجلالة في أن فم السفير السعودي نطق بغير ما هو مأذون به، وما ينبغي لسفير أن يكتب غزلاً في فدائية فلسطينية، ونشأت أزمة دبلوماسية انتهت أن يترك (القصيبي) سفارة لندن ليعود لبلاده وزيراً.
ومقالي هذا فقط يتحدث عن هذا الشاعر الفاتن والصحفي المرموق والمثقف الظريف وصاحب اللسان الحصيف الذي هو ملح وعطر وماء المجتمعات الطهور..
وحين التقيته بـ (بيروت)، و(بيروت) هوى أفئدة الشعراء خاصة لشاعر مثل القصيبي، رأيت رجلاً حديقة وبستاناً ونهراً، ثم هو مثل النخلة وإن بدت عالية القامة، فهو في تواضع العلماء.
وأتحدث عنه اليوم – عفواً – أقصد أن أترك بعض كتبه تتحدث، ولهذا سأقطف من عناقيد كرمه بعض حبات عنب وكأني الفتى (عداس) بالطائف يستضيف المعصوم بحبات عنب وهو يومها حزين إكسير، لأني لا أستطيع إلا أن أقدم قطفة من كل كرمة.
دواوينه عدة، (يا فدى ناظريك) و(أبيات القصيد)، كما سأتعرض بعض مما جاء في بعض كتبه: (قصائد أعجبتني) و(استراحة الخميس).
يقول القصيبي: (كثيراً ما تكون القصيدة الخالدة في الوقت نفسه مسرحية أو ملحمة أو رواية أو فيلماً أو سيمفونية..)، واختار لكل قصيدة، فقال إن القصيدة المسرحية هي (وا حر قلباه) للمتنبي، ويقول: على أن القصيدة هي في الوقت نفسه مسرحية درامية مثيرة..
وا حرَّ قلباه مِمن قلبه شِبم
ومن بحالي وجسمي عنده عدم
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته
فليت إنا بقدر الحب نقتسم
قد زرته وسيوف الهند مُغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم
وكان أحسن ما في الأحسن الشِّيم
ثم يستعرض القصيدة في وقفاتها الدرامية وهو – المتنبئ – يصفي حساباته مع الوشاة وحتى سيف الدولة نفسه:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بمكرمة
لو أن أمركم من أمرنا أمم
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ثم يعطي “غازي القصيبي” أنموذجاً للقصيدة (الملحمة)، ويختار قصيدة (الأطلال) للدكتور إبراهيم ناجي، فيقول: (كل قصيدة خالدة هي ملحمة من حيث أنها تعبر عن تجارب إنسانية منوعة عميقة وصادقة، ومن حيث أنها تعبر عن مشاعر محتدمة مصطرعة مضطربة، ومن حيث أنها تكشف روح الشاعر لا في بعد واحد أو بعدين، بل بكل أبعادها الإنسانية الشاسعة وهي بالتالي تكشف روح كل إنسان):
يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحاً من خيال فهوى
اسقني وأشرب على أطلاله
وأروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطاً من ندامى حلم
هم تواروا أبداً وهو انطوى
ثم وقف على أبيات القصيدة وهي مائتان، لكني أقف هنا لأتحدث عن القصيدة (الرواية) كما يقول القصيبي..
اختار “القصيبي” قصيدة (حديث دمية) لإبراهيم العريض، فيقول: (لهذه القصيدة في نفسي مكانة خاصة، منها أني أحب شعر الرثاء واعتبره أصدق الشعر، والقصيدة هذه هي في حقيقة الأمر قصيدة رواية، والرواية هي ذلك الضرب من ضروب الأدب الذي يصور الأشخاص كما يوجدون في الواقع، والأحداث كما تقع في الحياة عن طريق حبكة فنية ومخطط ينتظمها من أولها إلى آخرها).
(هذه القصيدة تضعنا أمام فاجعة بكل عنفوانها ومرارتها، تتحدث عن موت طفلة، وتعطينا عن تلك الطفلة من التفاصيل ما يجعلنا نعرف هذا الفقد الفاجع).. “فوزية” هي هذه الطفلة:
مدت لها الأم راحتيها
كأنها صورة الحنان
صبية عشرها الحنايا
ما جاوزت دولة الثمانِ
خفيفة الظل، ذات زهو
تنعس في جفنها الأماني
ما أنضر الروض في صباها
وكل ما فيه وردتان
عالمها – لو ترى – صغير
لكن لديها فيه ألف شأن
ثم يصور فوزية وأمها:
جاءت إلى أمها صباحاً
تحتضن العرس باليدين
 وبادلتها بقبلة لم تجاوز
الشعر.. قبلتين
 أماه أين الذي أعدّته
خالتي كي تقر عيني
أود أن أرتديه حالاً
فإن للعرس جلستين
والريح مجنونة وأخشى
إذا تمادت في الضحكتين
ضحكتها تعبر الصحارى
كأنها ثورة الحسين..
آهـ.. أخاف – قارئي الكريم – أن أتوغل في أبيات الموت.. فاعذرني..!!
ثم يتحدث عن القصيدة (العلم) وهي مرثية مالك بن الريب، يقول غازي القصيبي: (هذه أعظم القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه):
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضا ماشي الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا
مزار ولكن الغضا ليس دانيا
يقولون لا تبعدوهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غد يا لهف نفسي على غدٍ
إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا
إذا مت فاعتادي القبور وسلمي
على الريم أسقيت الغمام الغواديا
ترى جدثاً قد جرت الريح فوقه
غباراً كلون القسطلاني هابيا
رهينة أحجار وتُرب تضمّنت
قراراتها مني العظام البواليا
وبعد
ما رأيك أن أواصل بعد الفاصل.. في عدد قادم..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية