استفتاء دارفور .. تبديد للمال العام
{أعلنت الحكومة عن تشكيل مفوضية عليا لاستفتاء دارفور (الإداري)، وعقد رئيس وأعضاء المفوضية مؤتمراً صحفياً أمس الأول لتوضيح مهام المفوضية وجداول الاستفتاء الذي ستبدأ عمليته اعتباراً من الشهر المقبل، ليبدأ التصويت في شهر أبريل المقبل .
{الاستفتاء منصوص عليه في اتفاقية سلام دارفور الموقعة بالدوحة في يوليو عام 2011م، بين حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة بقيادة الدكتور “التيجاني سيسي” .
{والاستفتاء عكس ما يظن البعض، طبيعته (إدارية) بحتة، وتتلخص في الإجابة على سؤال واحد: هل يريد سكان دارفور أن يستمر الوضع الإداري الحالي بوجود ولايات أم يفضلون وجود (إقليم) يضم ولايات ؟
{ورغم أن وجود إقليم أو ولايات بسلطة إقليمية، ليس بأمر ذي قيمة بقدر ما أن الأهم هو وجود خدمات وتنمية وأمن واستقرار، إلا أن قيادة الدولة تبدو مصرة على قيام هذا الاستفتاء في (غير موعده) !!
{فالاتفاقية أجلها انتهى في يوليو من العام 2015، وتم التمديد لها وللسلطة الإقليمية لعام واحد ينتهي في يوليو 2016، بموجب مرسوم جمهوري اعتمد على المادة (10) من الاتفاقية، وبمراجعة نص المادة بكل فقراتها لن تجد – أكرمك الله – نصاً يتحدث عن تمديد أجل الاتفاقية والسلطة، غير إشارة إلى استمرار عمل السلطة لـ(4) سنوات في حال اختار أهل دارفور الوضع الإداري الحالي (ولايات) .
{والاتفاقية تقول بقيام الاستفتاء الإداري بعد (عام) واحد من التوقيع على الاتفاقية، وبالتالي فإن الموعد المحدد لقيام الاستفتاء هو العام (2012) وليس العام (2016) .. !!
{وبمراجعة نصوص الاتفاقية ستجد أن نصوصاً ومواداً وفقرات لم يتم الالتزام والوفاء بها حتى يومنا هذا، بعد انتهاء أجل الاتفاقية، فلماذا تتمسك الحكومة بإجراء الاستفتاء دون غيره من الاستحقاقات الدستورية الأخرى ؟!
{مثلاً المادة (12) الفقرة (83) تقرر تعيين (2) من الحركات في منصب (الوالي) في حالة إضافة ولايات جديدة، وقد تمت بالفعل إضافة ولايات، ولكن واقع الحال الآن يؤكد أنه لا يوجد (والٍ) واحد من الحركات في الولايات الخمس!!
{وقد كان السيد “حيدر قاليكوما” هو الوالي الوحيد من الحركات حاكماً على ولاية غرب دارفور، ومع تميز فترته بنجاح نسبي وهدوء أمني على كافة جبهات الولاية فقد تم نقله إلى المركز وزيراً للشباب والرياضة، ليغرق في مشاكل (الهلال) و(المريخ) والاتحاد العام لكرة القدم، ولم تكن له ناقة ولا جمل في هذا المضمار!!
{ليتم استبداله بوالٍ لا يعرف شيئاً عن “الجنينة” وأهلها، ليتبدى فشله بعد (6) أشهر فقط على تعيينه وتشتعل المدينة بالحرائق التي لم تعرفها طيلة سنوات التمرد من العام 2003م !!
{إذن هذا خرق للاتفاقية، خرق ثان، الاتفاقية تنص في المادة (4) على تعيين (مساعد رئيس جمهورية) من دارفور (من الحركات)، هذا غير نائب للرئيس (لا يشترط أن يكون من الحركات)، ويكون مساعد الرئيس مسؤولاً عن ملف السلطة الإقليمية وعضواً في جهازها التنفيذي، بينما يكون ولاة الولايات نواباً لرئيس السلطة.
{هل هذا موجود الآن في واقع الحال؟ لا ليس موجوداً، فهناك حالياً (خمسة) مساعدين للرئيس ليس من بينهم واحد من دارفور، بينما اثنان منهم من شرق السودان، رغم أن الشرق مظلوم في قسمة سلطة الجهاز التنفيذي بالمركز أكثر من دارفور، وأفيد للشرق تعيين وزراء ومديرين بدلاً من مساعدين بلا مهام وسلطات واضحة .
{الاتفاقية أيضاً تتحدث في المادة (20)، عن دفع الحكومة لمبلغ (2) مليار دولار – لاحظ 2 مليار دولار – لصندوق إعمار دارفور تدفع على دفعات بجداول ومواقيت محددة، فضلاً عن (225) مليون دولار تدفعها الحكومة على ثلاث دفعات متساوية دعماً للخدمة الاجتماعية بولايات دارفور، فهل تم الوفاء بسداد كل تلك المبالغ ؟
{أستطيع أن أعدد مواداً لم يتم الوفاء بها في هذه الاتفاقية، وكذا الحال في اتفاقية (نيفاشا) التي تم فصل جنوب السودان اعتباطاً بموجبها . وأنا هنا لا ألوم الحكومة وحدها، فالحركات والمجتمع الدولي والمانحون أيضاً أخفقوا في الالتزام بواجباتهم والتزاماتهم المقررة في الاتفاقيات.
{لكنني مهتم هنا بأمرين؛ الأمر الأول هو موافقة وتمرير وفود الحكومة على تعهدات والتزامات سياسية ومالية عسيرة خلال المفاوضات مع الحركات المختلفة من الجنوب للشرق لدارفور والتوقيع عليها في الاتفاقيات، وهم يعلمون أن حكومتهم لا تستطيع الوفاء بها، ما يسبب حرجاً وطعناً مستمراً في مصداقية الحكومة، أقول هذا والحكومة ربما تكون مقبلة على توقيع اتفاقيات جديدة مع حركات أخرى من بينها (قطاع الشمال) .
{الأمر الثاني هو إصرار الحكومة على تنفيذ بنود دون أخرى، مع أنها بنود مكلفة جداً ومرهقة لخزينة الدولة التي تتكاثر عليها الالتزامات اليومية دون توفر موارد كافية للتغطية !!
{ما الداعي لإقامة استفتاء إداري الآن في دارفور يكلف الدولة مئات المليارات من الجنيهات، علماً بأن المساعي (القطرية) جارية حتى يوم أمس لإلحاق حركتي جيش تحرير السودان والعدل والمساواة لعملية السلام ؟!
{لماذا تلتزم الحكومة بفقرة في المادة (10) من الاتفاقية ولا تلتزم بفقرات أخرى في ذات المادة، وفقرات في المادة (4) والمادة (12) والمادة (20) .. مثلاً؟!
{لا معنى لقيام هذا الاستفتاء بهذه الميزانية الضخمة، والأولى تحويل المال لإنشاء مستشفيات ومدارس وطرق وحفر آبار للمياه، فالاتفاقية تقوم في أصلها وديباجتها على أهداف سامية، هي في مجملها توفير الاستقرار والتنمية والخدمات والحياة الكريمة لأهل دارفور.