رأي

ربع مقال

كان أبي رجلاً عظيماً ..!!
خالد لقمان
.. لأول مرة منذ أن خط  يراعي الكلام  ترتجف يداي وتضطرب نفسي ويختلج قلبي وترتفع وتيرة نبضه وتهبط حتى خال لي سماع دقاته وكأنها صوت أقدام فرس أصيل  يعدو على أرض صلبة  .. هذه أولى كلماتي منذ أن فقدت أسرتي .. (والدتي العظيمة وشقيقتي البارة وأشقائي البارين جميعاً) والدي .. ذلك الرجل العظيم الذي كلما حاولت أن أتذكره ماشياً أراه رائحاً أو غادياً من المسجد، وكلما حاولت أن أتذكره قاعداً أراه قارئاً للقرآن أو مستمعاً له ولمديح أولاد حاج الماحي .. أردد معه آيات الله الخالدات وأنشد معه بديع نظم الماحي وحلو إنشاد أحفاده ..كان يحبهم وكنت حريصاً على أن أسمعه شدوهم وقصيدهم .. قصيدة التمساح وأسد الله البضرع .. و( يَا أحبابي بعد الغيبة .. عايز أزور وأجاور طيبة..) .. كان يهز رأسه  مغمضاً عينيه في انتشاء حتى التلاشي من غبراء البشر إلى سماوات الله وملائكته .. كان رجلاً عظيماً .. عظيماً بحق .. اقتحم الحياة بجرأة الشباب وشجاعة الرجال .. انتزع نفسه انتزاعاً من حجر والدته الحاجة “نفيسة عثمان فرج” تلك المرأة الصالحة التي كانت وعندما تشتد قسوة  الحياة (في قرية الركابية بالولاية الشمالية – شرق مروي)   تحلب شاتها  لتسقيه حليبها وتأكل هي البليلة .. بليلة اللوبا عفن .. لذلك وكما سرد لنا جاءت محبته لهذا النوع من اللوبا فكان يطلبه مع إفطار رمضان حتى أحببناه معه .. كان يمسك بيديه الصغيرتين قرعة اللبن ويشرب ما حلبته له والدته وهو على حجرها .. تهدهده .. (..حسن الحوش .. يا حسن الحوش ..) .. لأنه  كان آخر من تواجد وبقي معها في حوش أبيه من بين أشقائه وشقيقاته .. صورة بقيت في ذهن هذا الرجل العصامي فخرج يتيماً (لم ير والده)  من قريته مودعاً صدر والدته الحنون مقسماً على العودة رجلاً مقتدراً باراً بها وبأهله .. وقد ساعده ربه لصدقه ففتح له باب العلم والرزق معاً فتعلم باجتهاد وعمل بمثابرة أدهشت من حوله .. كان يعمل نهاراً ويتعلم مساءً حتى نجح سعيه في كل ما اتجه إليه .. وفي لحظة من تصاريف أقدار الله وجد نفسه قيادياً في كبريات شركات القطن بالبلاد (شركة إسكندرية قطن) وبعدها كانت انطلاقته المهنية على قمة شركة بور تسودان للأقطان الشهيرة، وأخيراً المؤسسة العامة للقطن، حيث زامل عدداً من الشخصيات الاقتصادية المعروفة ومنها بروفيسور “بركات موسى الحواتي” والخبير الاقتصادي “عبد الرحيم حمدي”، وغيرهما الكثير من الشخصيات التي تذكره لي الآن بصفات الاستقامة والأمانة والصدق والجدية والتفاني في العمل، كما ويذكرونه بطيب أخلاقه وحلو معشره ورجاحة عقله حتى كان كل من يريد الاحتكام لخلاف يشار إليه لاستطلاع رأيه والقيام بدور للحل والمشورة، وهو دور لعبه وبشكل أوسع في محيط الأسرة الكبيرة من الأهل .. كان هو من يستشار وهو من يستطلع وهو من يستمع إليه .. فيه صمت العلماء وحديثهم .. يكتم الأسرار ويسعى الأخيار فيصلح ويرأب الصدع ويساعد المحتاجين وأهل الحاجة بدون ضوضاء وفي صمت مهيب ..لا يتحدث أبداً عن خير فعله .. يعرف بمهارة أين يضع صدقته وأين يبذل خير ماله .. وفي قدرته على كتم الأسرار طرفة سردها لنا .. (فعندما عاد وبصحبة والدته من الحج باراً بها في أرض الله المقدسة  أحضر معه هدايا من عطور الحجاز فأقبل عليه عمه الظريف “نور الدائم”  أطال الله عمره  وهو يكاد يقاربه سناً وقال له : جيت تعرس مش كدة يا حسن .. لازم توريني هسع داير بت منو ..؟؟ .. وألح  بشدة عليه ليخبره وما كان لدى والدنا فكرة كهذه إلا أنه اضطر ساعتها ليقول له اسماً مشدداً عليه أن يبقي الأمر سراً .. عندها ضحك عمه “نور الدائم” وقال له : .. والله من طلعتي من الباب ده حأكلم كل زول .. سراً ما مسكتو في بطنك دي عايزني أمسكو ليك ..) .. وكان درساً تعلم به والدنا كيف يكتم أسراره وأسرار غيره فكان خازناً أميناً مؤتمناً عليها .. وفي ضروب العمل العام كان “حسن لقمان” رقماً في النشاط السياسي، وبالرغم من صغر سنه إلا أن السياسي الاتحادي المعروف “مامون سنادة” الأمين العام للحزب الوطني الاتحادي أسند إليه أهم أمانات الحزب بالبحر الأحمر – بور تسودان –  فكان أميناً لأمانة الشباب. وفي إحدى زيارات الزعيم “الأزهري” وقف الشاب “حسن لقمان” ليطالبه بإنشاء مدرسة بالضفة الشرقية للنيل، واختار لها اسم (مدرسة كنار) تيمناً بملوك ممالك كنار. وقد وافق الزعيم ورأت المدرسة بالفعل النور كأول مدرسة بالمنطقة،  و(كنار) هو ذات الاسم الذي اقترحه “حسن لقمان” لاتحاد كنار الحالي فخرج اقتراحه بتأييد كبير عندما ذكر للحضور الممثل لقرى الضفة الشرقية للنيل، بأنهم أبناء ملوك فصفقوا حينها بحرارة  وحماسة موافقين على الاسم .. ومن أجل أهله ومسقط رأسه الركابية  قام بإنشاء وقف كبير يقف شامخاً الآن ويضم استراحة متكاملة أصبحت قبلة لكل الزائرين والمهندسين والمهنيين المكلفين بمهام تنموية وإدارية، كما ضم الوقف خلوة لتعليم القرآن ومساحة لمصلى ملحق. ويوم وفاته وقف إماما مسجدي المنطقة ليباري كل منهما الآخر في تاريخ فقيدنا منذ التأسيس والتعمير والعمارة وذكر الله ..  والآن يودع هذا الرجل العظيم حياتنا تاركاً من خلفه زوجته الفاضلة المثابرة والصابرة والبارة به والأم الرءوم “سعدة عبد الرحيم الحسن” والأبناء  البارين جميعاً به الدكتور القاضي “عصام الدين حسن لقمان” والدكتور المهندس “عادل حسن لقمان” والقانونية “نجوى حسن لقمان” والدكتور الطبيب “عمر حسن لقمان”، وصاحب هذا القلم الذي يفشل الآن في إخباركم كم كان هذا الرجل عظيماً .. عظيماً بحق ..
مثلكم تماماً أيها السودانيون الذين تعرفون كيف تعيشون مجتمعاً واحداً تحزنون جميعاً لحزن أحدكم وتفرحون جميعاً لفرحه .. وقد عايشتكم هكذا خلال أيام فقدنا الجلل فكانت مواساتكم هي ما أمسكت بنا بحبل الله وصبره، فلكم جميعاً شكرنا وامتناننا وقد علمت الآن فقط  أن هذه الحياة أقصر بكثير مما كنت أظن فلنحياها جميعاً بكل هذا الحب السوداني الأسطوري العظيم  .. وليس هذا أيها القراء الكرام ربع مقالي بل هو كل المقال.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية