لجان الأزمة
شكل وزير العدل د.”عوض الحسن النور” لجنة تقصي حقائق بشأن الأحداث التي شهدتها مدينة “الجنينة” اليومين الماضيين، ولا تزال ردود أفعالها تترى على الساحة الداخلية والخارجية. وقصة لجان التحقيق بشأن حادث معلن ومعروف نتائجه وأسبابه تعيد للذهن قصة البديري في شمال كردفان مع الشيخ “إبراهيم السنوسي” الوالي حينذاك، وكانت الإنقاذ في ذلك الزمان ترسي قواعد مشروعها الحضاري، الذي يقتضي تغيير أسماء المدارس والشوارع وعدم المساس بأسماء المواطنين المستهدفين أصلاً بالتغيير الاجتماعي المرتجى.. وحينما كان شيخ “السنوسي” يطوف على أحد القرى الصغيرة النائية توقف عند قرية بها مدرسة مشيدة من المواد المحلية (القش) ،ومن حسن حظوظ أهل القرية أن تاجراً صغيراً مما يسمى (بالتشاشي) كان يغدق على المدرسة بالمعونات والهبات والعطايا، ويمد مدرسة القرية بما تحتاجه في حدود إمكانياته وقدراته المالية، وحينما خاطب “السنوسي” الأهالي، تبرع بتشييد مدرسة من مال الحكومة وإكراماً لأهلها وربطها بالماضي القديم.
أطلق عليها اسم مدرسة “سلمان الفارسي” حسبما كانت تقتضي دواعي الحال.
صمت أهل القرية إلا من رجل أشعث أغبر خرج من الصفوف الخلفية، وقال والله يا السيد الوالي نشكرك على التبرع والزيارة ،وتفقد أحوالنا.. لكن تغيير اسم المدرسة عندنا فيه رأي، إذا كان لابد من اسم فإن “سليمان” الربع التاجر الجالس في الصف الأمامي، أحق من “سلمان الفارسي” ،والذي نحن لا نعرفه ولم يزرنا من قبل، ولم يدفع جنيهاً واحداً ،في بناء المدرسة.. ضحك “السنوسي” وأعلن نزوله عند رغبة الأهالي، ولكنه حدث الناس عن “سلمان الفارسي” ودوره في صدر الإسلام.. وما كان من الرجل البديري إلا أن نهض وقال لو الأمر كذلك، أنا موافق على اسم “سلمان الفارسي” الذي خلته أول الأمر واحداً من جلابة الأبيض ،أي التجار الأثرياء.
ولجنة د.”عوض حسن النور” يحسبها مواطنو مدينة “الجنينة” أنها ستأتي من أجل تحرير أوامر القبض لكل المطلوبين للعدالة ،الذين ارتكبوا جرائم بحق المواطنين منذ سنوات، وإلقاء القبض أولاً على قتلة الراعي، وحادثة “ملي” التي فجرت الأوضاع في المنطقة، ولكن لجنة تحقيق وزير العدل لن يتعدى دورها توصيف الأحداث، وكتابة تقرير لا يعرف متى ينظر فيه الوزير، وإذا نظر فيه قد يعجز عن فعل شيء ، وإلا كانت أحداث (تبرأ) في شمال دارفور منذ سنوات، قد وجدت ضوءاً في ظلام دارفور الراهن.. وحينما تصل لجنة وزير العدل لدار أندوكا، ستجد المحتجين الذين اقتحموا منزل الوالي المسكين بحميرهم وعتادهم، قد دخلوا معسكرات النازحين المحمية أممياً ،وأصبحوا من المطالبين بحقوق سياسية واجتماعية وتعويضات، وينصب بعض الشيوخ أنفسهم ناطقين باسم قرية “ملي”.. ولذلك إذا ادخر د.”عوض حسن النور” ،جهده ووقته وماله، أفضل من إضاعته في لجنة لا تقدم ولا تؤخر. وكل من تورط في حادث جنائي في دارفور ،فإنه يعبر المسافة التي تفصل بين الحكومة والحركات المسلحة ، وقد يعود بعد أسبوعين مشاركاً في الحوار الوطني ممثلاً لأهل “ملي”.
أما اللجنة الأخرى التي تم تشكيلها للتحري عن الأحداث والأسباب التي أدت لنشوبها ، فقد ضمت بعض أشخاص هم أنفسهم متهمون بالقصور والفشل في درء الأحداث، وهذه اللجنة قام بتشكيلها والي غرب دارفور، وضمت رئيس المجلس التشريعي ووزراء في حكومة الولاية ،ومعتمد “الجنينة”، إضافة إلى قادة الأجهزة النظامية، وهؤلاء جميعاً، بحكم مسؤوليتهم ، متهمون في نظر الرأي العام، إما بقصر النظر وسوء التدبير والتقدير وسطحية التفكير، وإما متهمون بالتواطؤ مع المخربين أو الذين انتهكوا حقوق المواطنين ، أو كانوا غير جديرين بتولي المسؤولية . وقسم الأمانة الذي أقسموه حينما عينوا في المواقع التي يتسنمونها، فكيف لمثل هذه اللجان أن تحقق في أحداث تجاوزت الاحتجاجات المحدودة ، إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير.
وهل تستطيع لجنة “خليل عبد الله” أن تحقق في كيفية دخول الفارين لمنزل الوالي واحتلاله.
بالمناسبة، مسألة لجوء المواطنين لمنزل الوالي وأمانة الحكومة، ينبغي النظر إليها بعين أخرى، فهؤلاء لو لم يكن لديهم أمل وعشم ورجاء في الحكومة، لما لجأوا إلى مقارها وبحثوا عن الطمأنينة والأمن والدفء بين ضلوعها.. وكان يمكن أن يلوذوا بمقرات (اليوناميد) ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، ظناً حسناً بحكومتهم وواليها، فهل تعاملت حكومة “الجنينة” بمنهج عدل الوالي الرءوف الرحيم، أم بقوة الوالي وهيبته وسطوته في منطقة شديدة الهشاشة، ولها قابلية الانزلاق في الأرض اللزجة.