أحداث "الجنينة"
الاحتقان في مدينة “الجنينة” عاصمة ولاية غرب دارفور قديم ومتجدد من حين لآخر، لأسباب مختلفة وتعود لأكثر من عشرين عاماً مضت، حينما تم تقسيم إقليم دارفور إلى ثلاث ولايات فأصبحت منطقة غرب دارفور واحدة من بؤر الصراع الإثني المسيّس، حيث نشبت مشكلات عديدة خاصة في قرية (ملي) التي ظلت محتقنة بالمرارات وفشلت الحكومات المتعاقبة على غرب دارفور في معالجة تلك الاحتقانات، بل مسحت على الأحداث بالتجاهل والتناسي طوال ثلاثة عشر عاماً.
منذ بدء الصراع لم تعقد مؤتمرات مصالحة ولم تنفذ خطة إصلاح ما في النفوس، وظلت الحركات المسلحة تنفخ في نار العصبية المرة وتنخر عظم المجتمع، وكانت التغييرات الأخيرة فرصة لمعالجة الاحتقانات القديمة، لكن بكل آسف لم تراع في التعيينات السياسية التباين الإثني والعرقي، وكان حرياً بوالٍ عين من خارج المنطقة أن ينقذها من الصراعات القديمة ويؤلف بين مكونات الولاية ويبذل جهداً في المصالحات، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، والدليل ما حدث من حرق لمباني الحكومة وحشد المتظاهرين والحمير والخيول داخل مباني الحكومة في مظهر يثير السخرية والإشفاق على مستقبل المنطقة برمتها.. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة حرب إعلامية، كل طرف ينشر روايته التي هي بطبيعة الحال تخدم قضيته أو يعتقد ذلك، وغابت حكومة الولاية من المسرح تماماً ولم تقل كلمتها وتصدر بياناً واحداً تكشف فيه طبيعة الأحداث التي تشهدها الجنينة.. وفي ذلك دليل على عجز حكومة الوالي خليل “عبد الله” وهي بعيدة عن تطلعات المواطنين وتكشف عجزها وقلة حيلتها وهي تجد نفسها وسط عاصفة كادت أن تذهب بطمأنينة الناس.
وبعد انقشاع أحداث الجنينة فإن الوضع يتطلب حزمة قرارات أولها إعادة النظر في حكومة الولاية نفسها بإسناد إدارة شأنها لشخصية عسكرية ذات بعد سياسي، لأن السياسيين قد فشلوا تماماً في حل المشاكل الأمنية والاجتماعية وتعيين ضابط برتبة كبيرة ذي خبرة يستطيع إنقاذ المنطقة من الانحدار الذي تهوي إليه. وفي ذات الوقت لابد من النظر في تمثيل أهلنا “المساليت” في الحكومة المركزية الذين ظلوا يحافظون على أمن واستقرار الولاية بفضل قيادتهم ممثلة في السلطان “سعد بحر الدين”، لكن في الفترة الأخيرة ظل في علاقته بحكومة “خليل عبد الله” شيء من التوجس وعدم الاستلطاف، وعند وقوع الأحداث كان بعيداً عن الجنينة، ولو كان السلطان “سعد” على وفاق مع حكومة الولاية لاحتوى شرارة الأحداث قبل وقوعها.
إن الاستهانة بأحداث الجنينة والتقليل منها والإصغاء للأصوات التي تقلل من شأنها وتطبطب على الجراح النافذة، فإن ذلك يخدم التمرد ويفتت الجبهة الداخلية بما صنعته الأحداث الحالية من شروخات في جسد دارفور المثخن بالجراحات من سنوات طويلة. وكلما لاحت في الأفق بوادر لطي أزمات دارفور أنشبت المنية بأظافرها في كبد المجتمع الدارفوري.
إذا كانت الأحداث قد مضت سراعاً، أمس، وتظاهر مواطنون في الجنينة احتجاجاً على ما حدث، فإن الأحداث بهذا التسارع تضع السيد الوالي أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما تقديم استقالته ليريح ويستريح وإما أن يتشبث بكرسي السلطة ظناً أن ما حدث هو خطأ ليس مسؤوليته. وقد (تركب) الحكومة رأسها وتظن وبعض الظن خطأ، أن إعفاء الوالي في هذه الظروف قد يفهم بطريقة خاطئة، كأن الحكومة ضعيفة وتستجيب للضغوط، لكن الحكومة التي تحس بآلام الناس وتستجيب لرغباتهم هي حكومة قوية وليست ضعيفة، لذلك على المركز أن لا يتردد في اتخاذ القرار الصحيح.