رأي

النشوف اخرتا

هل أصبح دولي (ضكراناً)؟
سعد الدين ابراهيم
نشأ (دولي) في بيت ميسور الحال لكنه يضج بالنساء، فبجانب أمه وهو بكريها
والوحيد الذكر وسط سبع بنات.. تكاثرن بسبب إلحاح أمه وأبوه أن ينجبا له
أخاً يشد من عضده.. كانت بالبيت عماته الثلاث “بخيتة” وهي أرملة لم تتزوج
بعد وفاة زوجها في السنة الأولى في حادث حركة.. و(سعيدة) وهي مطلقة صرحت
بأنها (كجنت الرجال) بي الله واحد وقبعت في البيت (مسرورة) وهي عانس تدعي
أنها مضربة عن الزواج.. ذلك بجانب خالته “الشول” التي تنتظر لسنوات أن
يرسل لها زوجها المغترب التأشيرة لتلحق به.
بسبب كل أولئك النسوة زاد العجن والدلع الذي يتلقاه (دولي)، وبالمناسبة
اسمه “عادل” تحول إلى (عدولي) تصغيراً ثم إلى (دولي) اختصاراً.. لم يكد
يفرغ من (دلع) أمه وأخته وعماته حتى كبرت أخواته وأضفن إلى (الدلع) جرعة..
لذلك نشأ (دولي) رخواً كالنساء.. زاد الطين بله إنه أصبح يستمد ثقافته
منهن.. زاد من التطلع إلى المرآة مثلهن.. ثم يستخدم الكريمات والدهانات
مثلهن يقلدهن في غدوهن ورواحهن.. حتى صوته أصبح يماثلهن.
لهذا الاختلاف.. كان ملهاة للزملاء في المدرسة ورفاق الحي.. أصبح لعبة
حينما يجدنه نساء الحي يحرضن إحداهن (الرسول أنضمي معاهو نشوف البشتنة)..
أول الأمر كان يعقده جداً هذا التندر.. لكنه بمرور الزمن وبطبطبة عصابة
النساء استطاع الصمود.
عندما شب عن الطوق.. أصبح والده يعاني من أمره.. وتدخل الأعمام
والأخوال.. لعلاج أمره.. فالولد أصبح (بنوتي) خالص.. تمخضت المحادثات
والمشاورات.. أن يقوموا بتسفيره إلى الدراسة في إقليم بعيد.. وأن يبقى
بالداخلية حتى يقوى عوده ويسترجل.. كان القرار صعباً.. ولكن هو الحل
الأخير والوحيد. رغم المناحات والعويل من الأم والخالة والعمات وقد أقمن
بيت بكاء عديل.. قاموا بتسفيره إلى هناك.. مع التأكيد بأنه سيعود
(ضكراناً).
بعد سنة عاد في الإجازة هزيلاً.. صمتاً.. قليل الكلام.. كان قد أخشوشن
بعض الشيء.. أعدت أمهاته له مشروع تسمين لم يتركن الحلبة.. ولا القضيم..
ولا الزبيب.. ولا مديدة التمر.. علفوه مدة الإجازة فعاود الرحيل إلى
الداخلية.
السنة الثانية عاد بذات الصفات مع زيادة جرعة الصمت مع بعض السرحان والتوهان.
السنة الثالثة لم يحضر في الإجازة قلقوا عليه.. بحثوا عنه.. جاءت الأخبار
أنه (شغال مساعد في لوري سفري) اقتنصوا اللوري حتى عرفوا أنه ترك
المهنة.. وعمل نادلاً في مطعم بـ”بورتسودان”.. ذهبوا إليه هناك وجدوا أنه غادر
“بورتسودان” للعمل في باخرة لا يعرفون وجهتها.
مرت الأيام كعادتها.. ولم تنس الأمهات ولا الأخوات (دولي).. والده أصبح
يائساً يحمل نفسه ذنب أن دفع به فجأة إلى إقليم بعيد وحرمه دفء الأسرة
ونعومة التدليل حتى يصبح رجلاً.. ولكن أين الرجل الآن.. أصبح يفكر أما
كان الأجدى أن يحتفظ به (بنوتي.. بنوتي)، أما كان يجب أن يتعهده بالرعاية
وسط الأسرة.. أمه ذبلت وكثرة البكاء جعلت بصرها يقل تدريجياً.. “بخيتة”
عمته جنت عديل.. فكلما تمر طائرة تنظر إليها فرحة وتهتف: أمكن جايبه
(دولي) ثم تنفجر في بكاء طويل “سعيدة” ملأت جدران البيت بصوره التي
استنسخت منها العشرات.. وكانت تحلم بأن يجيء (دولي) داخلاً فجأة..
(مسرورة) تنوح وتخرج إلى الشوارع تبحث عنه وهي موقنة بأنها ستجده.

ربما يكون في (غوانتانامو).. يذهب بهم الحزن إلى هذا الاتجاه فيطردون
الاحتمال.. ربما مات في العراق.. ربما هو في كندا.. أو هولندا.. ربما في
أمريكا.. لا أحد يدري ولا أحد يستبعد كل احتمال مهما كانت غرابته.

أصبح (دولي) حكاية ترويها الحلة.. مع الإضافات والتحوير.. من يجعله شيخاً
صالحاً ومن يجعله لاهياً فاجراً في أوروبا.. ومن يقرر بأنه مات (قطع شك)
أصبح (دولي) حكاية ولكن بلا نهاية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية