واقعية موازنة
بات مبلغ حلم السودانيين وكل أمنياتهم أن لا تتخذ الحكومة قرارات برفع دعمها للكهرباء والقمح والجازولين، وتراجعت الآمال في النهوض بقطاعات الزراعة والسكك الحديدية.. ومشروعات الطرق التي توقفت منذ عامين بعد نضوب مال البترول.. وجاءت ميزانية العام الجديد التي مرت من قبة البرلمان بالتصفيق (الممنوع) والتهليل والتكبير المرغوب، واكتسى وجه وزير المالية بابتسامة الرضا عن نواب البرلمان، ولكنه أي الوزير لا يزال غاضباً على الصحافة التي عنده متهمة في ذمتها وهي تتحرش به وتكتب على لسانه إساءة لشعب لم ترد على لسانه.
الموازنة الجديدة في سياق محدودية الطموح وواقعية حال بلادنا لم تفرض ضرائب جديدة على المواطنين، وخلت من رفع التعرفة الجمركية.. والإبقاء أيضاً على ضريبة القيمة المضافة دون زيادة مع الإشارة للتوسع أفقياً، وكذلك لم تتضمن الموازنة زيادة في ضريبة أرباح الأعمال وتلك هي الزيادات التي تؤدي لارتفاع أسعار السلع.. ولم يكشف الوزير عن إجراءات بصدد اتخاذها للحد من ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي، ولأن طبيعة تلك القرارات فجائية آثر الوزير التلويح بها دون إفصاح.. وليت تلك القرارات والإجراءات ذات طبيعة اقتصادية وليس إجراءات بوليسية وأمنية فقط بالقبض على تجار العملات والزج بهم في السجون حتى لا يجد المعروض القليل من الدولار من يشتريه. وقد انتهجت الحكومة من قبل تلك السياسات صادرت أموال التجار ووضعتهم في المحابس، ولكن سرعان ما يعود الدولار لجنونه والجنيه لوضاعة قيمته.. وقد لوح محافظ البنك المركزي من قبل بأن الحكومة بصدد سن تشريعات جديدة تجعل من تجارة العملات جريمة ترقى للخيانة العظمى التي يعاقب مرتكبها بالإعدام شنقاً حتى الموت، ولو سنت مثل هذه القوانين لدخلت تجارة العملة أنفاقاً مظلمة وأصبح الدولار مثل قندول البنقو.
من إشراقات مشروع الموازنة الجديدة زيادة الإيرادات لتبلغ (5) مليارات جنيه بمعدل (11%) وربما استند هذا التقدير إلى تطبيق نظام أورنيك (15) الإلكتروني الذي سد أبواباً يتسرب منها المال العام لجيوب الشركات الكبيرة جداً.. والموظفين الصغار في المحليات. والعمل بالأرانيك الإلكترونية في النصف الثاني من العام الماضي حقق زيادة كبيرة في الإيرادات، والسبب الثاني هو الإرادة السياسية الداعمة لسياسات وزير المالية في بسط هيبة المالية من خلال محاصرة التجنيب وإخضاع بعض جيوب الحكومة المالية إلى ولاية وزارة المالية على المال العام، ولكن لا يزال أمام وزارة المالية طريقاً طويل وشاق وصعب للسيطرة على المال وفطام الأفواه التي ترضع من ثدي الخزانة العامة.
وقد أعلن الوزير عن اعتماد مبالغ مالية كبيرة جداً في العام الجديد للقضاء على نقص المياه من خلال مشروعات حصاد المياه في الأرياف والقرى وتحسين شبكات المدن، وفي ذلك توجه محمود من الحكومة التي حصلت على دعم سعودي سخي لمحاربة العطش في الأرياف بإنشاء السدود والحفائر.. وعطفاً على ذلك فإن التحويلات المركزية للولايات زادت بنسبة (1%) وهي نسبة أقل من طموحات الولايات التي يكابد أغلبها ظروفاً صعبة.. ويواجه شحاً في الإيرادات، وتوقعت الميزانية الجديدة نمواً في الناتج الإجمالي إلى (4,6%) ونمواً في القطاع الزراعي (5,7%) والقطاع الصناعي (4,6%)، وقد حمل وزير المالية أوراقه وانصرف من البرلمان وسط عاصفة من التصفيق والإعجاب. ولكن هل يستطيع البرلمان مراقبة تنفيذ الأداء في الدولة لتلتزم بتنفيذ كل ما قطعته على نفسها أم إعجاب النواب بالموازنة وطرق تعبير الوزير عنها يحجب عنهم فضيلة الرقابة، وكما قيل عين الرضا عن كل عيب كليلة.